قبض العلم وفشو الجهل ...

قبض العلم وفشو الجهل…

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين أما بعد:

فإن قبض العلم وفشو الجهل من العلامات الخطيرة للساعة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل "[1]، وروى البخاري عن شقيق قال : كنت مع عبد الله وأبي موسى فقالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل ويرفع العلم[2]: وفي رواية لمسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قالوا وما الهرج ؟ قال القتل"[3].

قال ابن بطال : "هذا كله إخبار من النبي بأشراط الساعة ، وقد رأينا هذه الأشراط عيانًا وأدركناها ، فقد نقص العلم ، وظهر الجهل [4]".

وعقب على ذلك ابن حجر بقوله : "يظهر أن الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله ،والمراد من هذا الحديث استحكام ذلك حتى لا يبقى مما يقابله إلا الناذر، وإليه الإشارة بالتغير بقبض العلم فلا يبقى إلا الجهل الصرف، ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم ،لأنهم يكونون آنذاك مغمورون في أولئك "[5]. قلت : أن قوله " ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من اهل العلم " هذا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك [6].

وأمر الله يقصد به الساعة كما فسر ذلك في رواية أخرى، والشاهد هنا أن المراد بقبض العلم أن يقبض العلم تماما ولا يوجد إلا الجهل الصرف مع وجود طائفة ظاهرين على الحق.وقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبضه كيف يكون في حديثه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا :قال النووي : هَذَا الْحَدِيث يُبَيِّن أَنَّ الْمُرَاد بِقَبْضِ الْعِلْم فِي الْأَحَادِيث السَّابِقَة الْمُطْلَقَة لَيْسَ هُوَ مَحْوه مِنْ صُدُور حُفَّاظه ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَمُوت حَمَلَته ، وَيَتَّخِذ النَّاس جُهَّالًا يَحْكُمُونَ بِجَهَالَاتِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ"[7] .

تنبيه هام... !

إن العلماء ورثة الأنبياء، وبذهابهم يذهب العلم، وتموت السنن، وتظهر البدع، ويعم الجهل... أما علم الدنيا فلا شك في زيادة وليس هو المراد في الأحاديث بدليل قوله صلى الله عليه وسلم :"فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" والضلال إنما يكون عند الجهل بالدين ،والعلماء الحقيقيون هم الذين يعملون بعلمهم ،ويوجهون الأمة ويدلونها على طريق الحق والهدي،أما علم الدنيا فإنه في ازدياد وليس هو المراد في الأحاديث وإنما القضية في علم الدين قال الله عز وجل: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ " [8] ، فسمى الله علم الدنيا بأنه لا علم قال" وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ "فمع علمهم بعلم الحياة الدنيا سماهم الله عز وجل بأنهم لا يعلمون.أما العلماء الحقيقيون فهم الذين يعملون بعلمهم ويوجهون الأمة ويدلونها على طريق الحق والهدى،فإن العلم بدون عمل لا فائدة فيه بل يكون وبالا على صاحبه وقد جاء في رواية للبخاري " وينقص العمل"[9].

قال الإمام الذهبي مؤرخ الإسلام رحمه الله تعالى في ترجمة محمد الحليمي في كتابه تذكرة الحفاظ : "نوح الجامع مع جلالته في العلم ترك حديثه، وكذلك شيخه مع عبادته، فكم من إمام في فن مقصر عن غيره كسيبويه مثلا إمام في النحو ولا يدرى ما الحديث، و وكيع إمام في الحديث ولا يعرف العربية، وكأبي نواس رأس في الشعر عرى من غيره، وعبد الرحمن بن مهدي إمام في الحديث لا يدرى ما الطب قط، وكمحمد بن الحسن رأس في الفقه ولا يدرى ما القراءات، وكحفص إمام في القراءة تالف في الحديث.وللحروب رجال يعرفون بها "، ثم أضاف كلمة ذهبية تكتب بماء العيون قال :"وفي الجملة: وما أوتوا من العلم إلا قليلا، وأما اليوم فما بقى من العلوم القليلة إلا القليل في أناس قليل ما اقل من يعمل منهم بذلك القليل فحسبنا الله ونعم الوكيل"[10].

نعم كم هو كلام غال (...) وإذا كان هذا في عصر الذهبي فما بالك في زماننا هذا..؟! فحسبنا اللله ونعم الوكيل…

لا يزال العلم ينقص والجهل يكثر كلما ابتعدنا عن عهد النبوة، فالصحابة كانوا هم أعلم هذه الأمة وهم أساتذتها ومشايخها وكبراؤها ثم التابعين ثم تابعيهم دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" [11] .ولا يزال العلم ينقص والجهل يكثر حتى لا يعرف الناس ما فرائض الإسلام.عن حديفة بن اليمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب . حتى لايدري ماصيام ولا صلاة ولا نسك . ولا صدقة . وليسرى على كتاب الله عز و جل في ليلة . فلا يبقى في الأرض منه آية . وتبقى طوائف من الناس والشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله . فنحن نقولها ، فقال له صلة ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة ؟ فأعرض عنه حذيفة . ثم ردها عليه ثلاثا . كل ذلك يعرض عنه حذيفة . ثم أقبل عليه في الثالثة فقال ياصلة تنجيهم من النار ثلاثا "[12].

وأعظم من هذا و هو أيضا من ذهاب العلم و فشو الجهل وهو أن لا يذكر اسم الله على الأرض أبدا كما في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " [13] ، الله الله لا تذكر على وجه الأرض، فحسبنا الله ونعم الوكيل.

نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يقبضنا قبل هذا الزمان وأن لا يرينا الفتن وينجينا من كل بلاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

[1]أخرجه البخاري في كتاب العلم بَاب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ رقم 78 ومسلم في كتاب العلم باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان رقم 2671

[2] أخرجه االبخاري في كتاب الفتن بَاب ظُهُورِ الْفِتَنِ رقم 6538

[3] أخرجه مسلم في كتاب العلم باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان رقم 157

[4] شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/13)

[5] فتح الباري لابن حجر

[6] أخرجه مسلم كتاب الإمارة باب قوله صلى الله عليه و سلم ( لا تزال ظائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ) 1920

[7] اخرجه البخاري في كتاب العلم بَاب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ رقم 97

[8] سورة الروم (6-7)

[9] أخرجه البخاري كتاب الادب بَاب حُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ الْبُخْلِ 5577

[10] تذكرة الحفاظ ،للإمام الذهبي( 3/1031)

[11] أخرجه البخاري في كتاب فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ رَآهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ 3377

[12] أخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الفتن باب ذهاب القرآن والعلم 4039 قال الشيخ الألباني رحمه الله : صحيح انظر

الصحيحة ( 87 ) ، تخريج صفة الفتوى ( 28 )

[13] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب ذهاب الإيمان آخر الزمان 234