إن مقام الفتوى والتوقيع عن الله عز وجل له شأن عظيم ومنزلة رفيعة وذلك سر خطورتها على المفتي،قال ابن
القيم:‹‹وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله والذي لا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب فكيف
بمنصب التوقيع عن رب السموات والأرض،فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم
قدر المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه›› .وعن عبد الرحمان
بن أبي ليلى قال:أدرك عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‹‹فما كان منهم محدث إلا وود أن
أخاه كفاه الحديث،وما مفت إلا وأخاه كفاه الفتيا ››.ولا يخفى عليكم كما هو مشهور أن أمام دار الهجرة سئل عن
أربعين مسالة فقال في ست وثلاثين منها لا أدري.
ورغم كل هذه الخطورة التي ينطوي عليها الإفتاء والفتوى في الدين،إلا أن الكل؛المؤهل وغير المؤهل أبى إلا أن يحشر
نفسه ضمن قائمة المفتين والفقهاء،فتصدوا للفتيا عبر القنوات الفضائية والمنابر الإعلامية،فلا يتهيبون هذا المقام ولا
يتورعون عن التوقيع عن رب البريات،سيما أن كثيرا من هؤلاء ما استجمع شروط الفتوى ولا واجباتها وضوابطها
المقررة في علم الأصول،فتراه يفتي في الصغيرة والكبيرة،في الواضحة والمشكلة،يفتي السائل أيا كان،ولو كان لا يعرف عنه
وعن بلده إلا الانتساب إلى الإسلام دون استفسار عن تفاصيل مسألته أو عرف بلده وعاداتهم وغير ذلك مما هو معتبر في
الفتوى،فتراه يفتي المصري والفرنسي والمغربي...مما جعل البعض ينعت هذه الفتوى "بالفتوى الطائرة"و"الفتوى العابرة
للقارات".
وإذا كان من أخلاق الإسلام ومبادئه إنصاف الناس والإقساط إليهم،فإن المسلم لا يسعه إلا أن ينوه
بالفضائيات "الإسلامية" والإعلام "الإسلامي" عموما لما ينشرانه في صفوف المسلمين من ثقافة وفقه بدينهم لإخراجهم
من ظلمات الجهل بأحكام الشريعة التي طالما جثمت على قلوب الكثير منهم.إلا انه مع ذلك تطبيقا لمبدأ النصح والتواصي
بالحق بين المسلمين -وهو من مبادئ الإسلام أيضا-،فإن ذلك لا يمنع المسلم المخلص لدينه أن يسجل على هذه
الفضائيات تلك الظاهرة الخطيرة أعني فوضى الإفتاء الفضائي الذي تبوأ مقامه أشباه المفتين وأصاف المتعلمين المتفقهين.
ضوابط الإفتاء الفضائي: وحتى تؤتي الفتوى أكلها وينأى صاحبها عما يحوم حولها من الخطر والمسؤولية،يلزم ما يلي:
- تصدر المؤهلين للإفتاء الفضائي دون أشباههم وأنصافهم:قال تعالى:﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعلمون﴾ وأهل الذكر هم العلماء المتمكنون من ناصية الفتوى والفقه في الدين مع الورع والتقوى والإخلاص وسلامة
الدين والمعتقد قولا وعملا،ذلك أن الفتوى أمانة،فإذا كان المريض لا يطلب الاستشفاء إلا من الطبيب المختص
المؤهل،فكذلك المستفتي لا يسأل إلا عالما مؤهلا.وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.ومقتضى هذا أن يبعد كل من
ليس أهلا للفتوى كمن عرف بالميوعة وسوء المعتقد وعدم التمكن من العلم وضوابط الفتوى.
- التثبت من المسألة والتحري منها واستقصاء تفاصيلها وكل علائقها:فكثير من المفتين لا يستفسرون المستفتي
عن تفاصيل المسألة،وإنما يكتفون بما يقوله السائل ويتجاهلون الأطراف الأخرى إن كانت المسألة المسؤول عنها تخص
طرفين-لا أقصد هنا الأقضية،فإن المفتي غير القاضي-.كما أنهم لا يستفسرون عن أعراف وعادات بلاد السائل،ويجعلون
االمستفتين كلهم في منزلة واحدة في حين أن أعراف الناس تختلف والعادة محكمة كما تعلمون.
- عدم البث والإفتاء الفوري في مسائل الطلاق: لما به من الخطورة على مستوى كيان الأسرة واستقرار العلاقة
الزوجية. فان البعض من المفتين لمجرد أن يسمع من السائلة ‹طلقني زوجي› يفتي بوقوع الطلاق بينهما دون أن يثتبت من
قصد الزوج وظروف ذلك وأسبابه،فيشتت الأسرة ويفرق جمعها ويصبح شؤما عليها،بل على غيرها من الأسر إذا علمنا
أن الفتوى تنقل عبر الهواء يشاهدها الجميع،حيث يحصل في ظن بعض من يشاهد القناة أن مسألتها مثل مسألة صاحبتها
التي تسأل المفتي عبر القناة، ومن ثم تستغني عن سؤال العالم لأنها تعتقد أن مسألتها هي عين مسألة صاحبتها الأولى.
- قصر البث في النوازل ومستجدات العصر الكبرى على المجامع الفقهية والهيئات الشرعية الكبرى:وذلك حتى
نكون بمنأى عن الفتاوى الفردية والاجتهادات الأحادية التي تكون مادة للمشاكسات الإعلامية وتشغيب الصحفيين
المصحفين الذي يضربون علماء الأمة ببعض بمثل هذه الفتاوى،فذلك أدعى لئن تكون الفتوى محكمة وموثوقة يطمئن لها
المستفتي.وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.