طالب الشريعة بين هَمِّ طلب العلم وبين أطماع الاستقطاب الحركي...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى كل من اهتدى بهديه واستن
بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد،فما أن يطل علينا موسم جامعي جديد إلا وترى الفصائل الطلابية تجد وتجتهد في استقبال الطالب الجديد قصد
إرشاده إلى مكتب التسجيل ولوازمه وتعريفه بطرق اشتغال الكلية ونظام التدريس بها وقواعد الرسوب والنجاح وغيرها
من المعلومات التي تهم الطالب الجديد الذي لا يملك إلا أن يتلقى هذا الترحيب بكل عفوية وسذاجة،وهذا قصد حسن
لولا ما احتف به من السياقات والظروف،فالمتأمل في هذا العمل الفصائلي يستشف بغير أدنى شك أن القصد منه محاولة
استمالة قلوب الطلبة الجدد وعقولهم إلى أحضان هذا الفصيل أو ذاك لعل كل فصيل يظفر بأتباع جدد يخوضون "معارك
النضال" داخل "الحرم الجامعي" قصد حمل الإدارة على الاستجابة "للملفي المطلبي"،وهم لا يملكون التصريح بذلك وإنما
ينهجون مثل هذه السبل لما تنطوي عليه من البراءة والقصد الحسن،وإلا لماذا يخصون الطلبة الجدد بهذا الاستقبال دون
غيرهم؟ الجواب:أن الطالب الجديد يعتبر وعاء أملسا وصفحة بيضاء سانحين لئن يضخ فيه أي فكر،لأنه ذو فكر لم ينضج
بعد،ويتسم عقله بالطراوة والجاهزية التامة لاستشراب وتقبل أي فكر،وقديما قيل:‹‹التلقين في الصغر كالنقش على
الحجر›› أليس في هذا استخفاف بعقول الطلبة؟!
وفعلا يشاء الله سبحانه وتعالى أن يسقط فئام من الطلبة في هذه المتاهات الضيقة،وينضم إلى هذا الفصيل أو ذاك،وينشغل
بالأنشطة الحزبية،وينسى نفسه في ظل ذلك،ويتركها جاثمة على نقطة الصفر حيث ابتدأ لا يبرحها قيد شبر،وينسى طلب
العلم وغيره من الأغراض التي أتى من أجلها إلى هذه الكلية.ولا تحسبونا نتحدث من أعلى الجبل والسطح لا ندري ما
يجري على سفحه!!فكم وجدنا من هؤلاء الذين استدرجوا أول مقدمهم إلى الكلية وانشغلوا بالنشاط الحركي ما برحوا
مكانهم وما تجاوزوه،ولا تزال تطلع على نماذج منهم حية،وتعاينها بملء بصرك يوما بعد يوم،‹‹أنفقوا في غير شيء نفائس
الأنفاس،وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خلفهم من الناس؛ضيعوا الأصول فحرموا الوصول،وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في
مهامه الحيرة وبيداء الضلالة›› ،ولا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع ...وعن عمره فيما أفناه كما صح عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
إن استقبال الطالب الجديد لا حبا في سواد عينيه أو شفقة عليه أو حرصا على حقوقه،وإنما قصد استقطابه
واستدراجه إلى الانضمام إلى صف الحركة وهياكلها محاولة خسيسة غير شريفة فضلا عن أنها تنبئ عما يلي:
الاستخفاف بعقول الطلبة الجدد والتحقير منها،وذلك بجعلها محلا للمتاجرة الفكرية والحزبية،ولما فيها من
المساومة الخبيثة على مبادئه وقناعاته الشخصية من خلال سلوك طرق ملتوية يغلفها الخداع المقنع والتزييف المستور
للحق،وادعاء حمل هم الطالب واحتضان مصيره وتبني حقوقه كل ذلك لحشره في زاوية ضيقة قد تكون ما تكون،ولعلها
تكون في النار كما قال صلى الله عليه وسلم:‹‹...وتختلفوا أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة...››
الحديث.
اتهام الطالب الجديد بالضلال العقلي والتيه الفكري والميل عن الطريق المستقيم،لأن أي فصيل إذ يقوم بتلك
العملية المأفونة يعتقد أنه على الصواب والحق وغيره على الخطإ،وإلا فإنه يستحيل أن يعتقد أن ما عليه باطل ثم يستمر عليه
ويدعو غيره إليه،ولو لم يكن أتباع هذه الفصائل يعتقدون أن الطالب الجديد تائه ضائع مائل عن الحق لتركوه وشأنه.وقد
يحدث أن يكون الطالب الجديد على الحق وعلى الصواب في دينه وسلوكه ومنهجه لكن لضعف فيه راجع إلى قلة حجته
أو عدم إجادته الدفاع عن منهجه وطريقه أو لسذاجة فيه،فيستسلم لذلك الفصيل بكلمة مراوغة أو عبارة معبرة مصحوبة
بابتسامة قد تكون بهذا اللون أو بذاك.وفي هذا من الفساد والصد عن سبيل الله ما الله به عليم ولا ينبئك مثل خبير.
إن الدعوة إلى دخول حزب معين أو تبني فكرة أو اعتقاد مذهب ما يكون بعرض الفكرة بكل تجرد وأمانة
وصدق والدفاع عنها بالحجة والبرهان الحق الذي لا يخالف فيه اثنان،ثم تخويل المخالف أو المحايد النظر في ذلك كله وقول
ما عنده.وإذ أقول هذا فإني أجد نفسي مضطرا إلى تأكيد أن هذا المنهج في الدعوة لا يسلم إلا لأهل الحق خاصة دون
من سواهم،إذ لله وحده الحجة البالغة.وإذا علم طالب الشريعة وغيره هذا أيقن أن من يتطلع إلى استمالة قلبه وفكره بتلك
الطريقة غير الشريفة إنما يعزف على أوتار وخيوط أوهن من خيوط بيت العنكبوت،ويصدر عن دعوة وادعاء لا أصل
لهما ولا قوام ولا زمام،فلا يشغل نفسه بهما.
إن الله ما أوجب على العبد الدخول في الدين أول ما يكون،بل فصل له النجدين وأرشده السبيل فـ﴿إما
شاكرا وإما كفورا﴾،وجعله في خيرة من أمره:﴿فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾.وإذا كان هذا حال الله عز وجل
مع عبده الذي خلقه،وهو أهل لكل شيء قضاء وقدرا،فلماذا يستعبد أحدنا أخاه وقد ولدته أمه حرا شريفا؟!إن هذه
المحاولات البائسة استخفاف بعقل المسلم وحط من منزلته ووضع من رشده الذي أتاه الله كلا منا.
إن هذه الأساليب التعبوية والمسالك الاستقطابية السخيفة العقيمة تنم عن ضعف أو انعدام ‹البنية الحجاجية
والاستدلالية› التي بها قوام الدعاوى والأفكار والعقائد كما قال الشاعر:
والدعاوى ما لم تقيموا علــ ــيها بينات أصحابها أدعياء
بل كما قال الله عز وجل قبل أن يقول الشاعر:﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾،أما أن تدبج ساحات الكلية
بالطاولات عليها "صور البطولة والنضال"-لا ندري حقيقتها- مشفوعة بآيات قرآنية مفصولة عن سباقاتها،وأحاديث
نبوية مجردة عن سياقاتها،وأقوال مأثورة منزوعة عن لحاقاتها،كل ذلك لا يشفع لهذه الدعاوى والأفكار ولا يقيم لها وزنا
عند العقلاء.
نصيحة إلى الطلبة الجدد:وأنتما يا طالبا الشريعة لا تكونا إِمٌَعَهْ،ولا تجعلا لنفسكما نصيبا من قول علي لرضي الله
عنه ‹‹الناس صنفان عالم متعلم وطالب على سبيل النجاح،وهمج رعاع أتباع كل ناعق››،ولا تكونا كورقة يابسة سقطت
في رحاب الخريف من شجرة مباركة زيتونة فطارت بها الريح كل مطار نقيٌٍ ونجسٍ،وكونا عاقلين متعقلين لا تبغيان عن
منهج الله سبيلا،وكونا ممن رأى السبل تَتْرى فلم يمل إلى واحد منها،ومال إلى الصراط الأقوم،ولا تسلما أمركما لمن
تعرفان منه وتنكران؛يمزق كل ممزق،ويفرق كل مفرق،ويشتت الشمل ويشرذم الأمة ﴿كل حزب بما لديهم
فرحون﴾وحزب الله هم المفلحون،ثم يتباكون بعد ذلك على أنفسهم ويتظالمون إلى ربهم ظلم اليهود لهم وتسلط النصارى
عليهم وخذلان المنافقين لهم.واعلما أن الحق أبلج والباطل لحلج،وأن الأول يُؤتى ويُسعى إليه ويُطلب،والثاني يأتي ويسعى
ولا يُطلب،وخذا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم:‹‹استفت قلبك،والبر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب،والإثم
ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ››.وكونا سببا لمن اهتدى وأتلف،ولا تكونا عونا لمن ضل
واختلف،واحرصا على تحصيل العلم والجد في طلبه،واتبعوا صراط ربكم مستقيما:﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا
تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾،وَدَعَا عنكما سبل الضلال والتيه والفرقة والشقاق،فانه يكفينا من التشرذم والتفرق
ما نحن فيه.
كلمة إنصاف في حق العمل الطلابي الشريف:
رغم أني غير ملزم بمضمون هذا الاستدراك لأن الأصل في كل مسلم هو الصلاح والإحسان والنفع،وذلك ما يلزم كل
واحد من أن يعتده في أخيه المسلم،إلا أنه دفاعا عن نفسي أولا وإرضاء لغيري ثانيا- وإن كان إرضاء الناس غاية لا
تدرك-،فإن الطالب المقسط المنصف لا يملك إلا أن ينوه بالعمل الطلابي والأنشطة الهادفة التي تقوم بها بعض الفصائل
الطلابية في الساحة-ولا أعني فصيلا دون فصيل- من خلال إقامة المحاضرات لتوعية الطالب ببعض المدارك
والمعارف،وكذا السهر على بعض شؤونه والقيام عليها لدى الجهات الأخرى،فهذا مجهود مشاهد مسموع لا ينكره إلا
مكابر معاند أو حاقد مفلس،يسجل لهم فيشكرون عليه ويعاونون عليه لزاما.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين.[/center][/right][/justify][/justify]