طالب الشريعة لا يكون مبتدعا ...!!
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله،وعلى آله وصحبه أجمعين،وعلى كل من اهتدى بهده
واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد،فإن الله تعالى زايل بين العالم العارف بشرع الله وبين الجاهل بدينه غير الفقيه فيه،كما ميز بين القادر على
التفقه في الدين والتعبد لله بالعلم والبينة والدليل،وبين العاجز عن ذلك القاصر عنه؛قال تعالى:﴿قل هل يستوي الذين
يعلمون والذين لا يعلمون﴾،وإن من مقتضيات هذا التمييز ولوازمه،أن يكون القادر على التفقه في الدين وعبادة الله
بما شرع شرا من العاجز عن ذلك،متى أخل بذلك الفضل الذي أتاه الله،ولم يستعن به في إصلاح عبادته وتسديدها
حتى تكون وفق ما شرع الله.هذا وهو غير متعمد للابتداع ولا طالب له،خلِّ المتعمد الذي ركبه هواه وبدعته،وهو
عارف بالسنة مدرك لها.والذي أخاطبه إنما هو الأول الذي يقدر على إدراك السنة وبلوغها والتعبد وفقها وتبين الحق
بدليله،فلم يفعل تكاسلا أو تغافلا.أما العارف بها المخالف لها عامدا متعمدا،فقد أقام الحجة على نفسه وكفانا مؤنة
ذلك،وفي أمثاله يقول القائل:
لقد بان للناس الهدى غير أنهــــ ـــم بجلابيب الهوى قد تجلببوا
إن بعض طلبة هذه الكلية المباركة مع كونهم يدرسون العلم الشرعي الذي به يعلمون السنة من البدعة والضلالة من الهدى،أبى إلا أن يستحب البدعة ويركن إليها،ويقصر عن السنة ويتغافل عنها،فرضي لنفسه أن يتقرب إلى الله بصلاة وصوم وعبادة كما يتقرب بها بعض أشياخنا وعجائزنا الهرمين المخضرمين،فأصبحت عبادته وتدينه كعبادة وتدين عجائز نيسابور!!
إن القصد من كل علم يطلبه طالبه بعد قوة الفحص في طلبه ليس تعلم ذلك العلم لذاته،وإنما للعمل به والتحاكم إليه
في تقويم العبادة والسلوك،لأن ذلك شرط العمل،فإن الله لا يعبد بالجهل والتقليد،قال تعالى: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله
واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات﴾ .فبدأ بالعلم قبل العمل كما قال البخاري رحمه الله في الصحيح.وعليه فلا
قيمة لعلم لا يستفيد منه صاحبه،ولا يستثمره في تقويم عبادته والعمل به، قال علي رضي الله عنه:«هتف العلم
بالعمل،فإن أجابه وإلا ارتحل» .وليس أضر على ابن آدم من جمع العلم وترك العمل،قال أبو الدرداء رضي الله عنه:«ما
علَّم الله عبدا علما إلا كلفه الله يوم القيامة ضماره من العمل» .
وإلا فما الفائدة من تعلم علم كعلم أصول الفقه وصاحبه غارق في البدعة والابتداع،بحيث لا يكاد ينتشل نفسه منهما
بتحكيم مقتضيات ذلك العلم وقواعده التي ما وضعت إلا لضبط عمل المسلم وعبادته بالسنة والشرع؟!فما دام للفقه
علم يؤصل له ويحكمه هو أصول الفقه-وهو ليس بغريب عن طالب الشريعة- لزم طالب العلم أن يضبط عبادته بتلك
الأصول والقواعد مقرونة بالدليل،لينظر هل تمشي على سنن الشرع والهدى أم لا؟ومن ثم يدرك منزلة عمله من السنة
والاستنان والبدعة والابتداع،لا أن يبقى على الموروث الذي ورثه الناس،والذي ما زال يحتج به كفار قريش قديما،وكل
مبتدع حديثا:﴿وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا،أو لو كان آباؤهم
لا يعلمون شيئا ولا يهتدون﴾ .
كما أنه لا مسوغ لطالب العلم في التقصير في طلب الحق بدليله والعمل به،وهو قادر على ذلك بما أتاه الله من العلم
والقدرة على بحث المسائل الشرعية،وتمكنه من تطبيق القواعد والضوابط العلمية عليها. وركونه إلى إمام يقلده أو
مذهب يتبعه،بل يلزمه تطبيق مقتضيات ذلك العلم الذي تعلمه ويحتكم إلى قواعده،فهو الدليل له أو عليه،لا ما يقوله
الناس ويشيع بينهم.
وبعد،فهذه دعوة إسلامية لضبط العبادة بأصول الفقه وقواعده،وليست دعوة سلفية،فإنه ليس ثمة كتاب أصولي ألف
على طريقة السلفية،اللهم إلا ما كان من الشافعي رحمه الله في رسالته،بل إن أكثر من ألف في أصول الفقه ووضع
قواعده على مذهب المتكلمين المعتزلة أو الأشعرية،وهما ليسا من السلفية.وختاما أقول كما قال أبو العباس الأبياتي
الأندلسي رحمه الله:«اتبع ولا تبتدع،واتضع ولا ترتضع،وتورع ولا تتسع» ، فالخير كله في الاتباع،والشر كله في
الابتداع،وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم،وعلى آله وصحبه أجمعين.