- إنّ الله عزّ وجلّ قد قرن سعادة الإنسان العاجلة والآجلة بشيء واحد ألا وهو العمل الصالح، فهو الأمر الذي أناط الله عزّ وجلّ به سعادة الإنسان في كثير من آيِ كتابه المبين، فالبيان الإلاهيَ لا يبغي عن كلمة العمل الصالح بديلا، يقول الله عزّ وجلّ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) (الكهف - 30 )، ويقول ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) (الكهف -107) ويقول (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (مريم -96)، ولكن من الناس من يتصور أنّ المعنى المراد بكلمة (الصالحات) أو (العمل الصالح) إنّما هو جملة يسيرة من العبادات التى كثيرا ما تتحول إلى عادات أو إلى أعمال تقليدية يخيّل إليهم أنّ المراد (بالأعمال الصالحة) هذه الطائفة اليسيرة من العبادات، والأمر ليس كذلك, فكلمة (العمل الصالح ) كلمة عامة، بل لعلها أعمّ كلمة يستعملها البيان الإلهي للتعبير عن المهام التى خلق الله عزّ وجلّ الإنسان في هذه الحياة الدنيا للنهوض بها، كل ذلك يدخل في العمل الصالح، ما من عمل يصلح حال الإنسانية، أفرادا أو جماعات، طبقا للمقاصد الشرعية التى تدور عليها أحكام الشريعة الإسلامية إلاّ وهو داخل تحت معنى العمل الصالح.
أما الآيات التى تتحدث عن العمل الصالح شرطا لسعادة الإنسان في حياته العاجلة والآجلة فكثيرة ، ولكن العمل الصالح لا يكون صالحا إلاّ بشرطين إثنين لا بدّ منهما:
الشرط الأول: أن يكون مشروعا قد شرعة الله سبحانه وتعالى، وأمر به وحببه.
الشرط الثاني: أن يبتغى بهذا العمل وجه الله عزّ وجلّ، وأن يقصد التقرّب به إلى الله واستنزال مرضاته فمن أراد أن يتقرّب إلى الله عزّ وجلّ فعمل غير مشروع لا يمكن أن ينال حُظوة عند الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يعد عمله صالحا.
مقياس الصلاح لا يتمثل في ما يتصوره الإنسان بمقاييس رعونته ومقاييس أهوائه وأمزجته، وإنّما يتحقق الصلاح بمقياس كتاب الله عزّ وجلّ، وبمقياس أوامره ووصاياه.
كذلكم الإنسان الذى يقوم بالأعمال الصالحة المشروعة ولكنه يبتغى بها مصلحة نفسه، يبتغي بها تغذية أهوائه ورعوناته ومقاصده الدنيوية، فإنّ عمله هذا لا يغدو صالحا وإن بدا كذلك، هذا القصد يمسح العمل الصالح ويقلبه إلى سيء، وما أكثر الأعمال التى في ظاهرها أعمال صالحة، ولكنها تحولت بسبب سوء القصد إلى أعمال فاسدة. فالأعمال الصالحات منزلتها في الدين عظيمة، ومرتبتها في الإسلام عالية، فهي ... الإيمان في كتاب الله.
"ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما" "إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا" "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيّبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".
ولذلك ينبغي أن يتبيّنه الإنسان وهو يسير في طريقه إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، وأهم هذين الشرطين الشرط الثاني، ذلك لأنّ الشرط الأول هو من الوضوح بمكان، فما من إنسان تبين مبادىء الإسلام، وأصغى السمع إلى كلام الله عزّ وجلّ وما يقوله رسوله صلى الله عليه وسلم، إلاّ وعلم الأعمال الصالحة، وتبيّن الفرق الذي بينها وبين الأعمال الفاسدة، ليس في الناس مَن لا يعلم أنّ الفواحش من الأمور الفاسدة، وأنّ الظلم من الأمور الفاسدة، وأنّ سوء الأخلاق في التعامل مع الآخرين من الأعمال الفاسدة، وليس في الناس مَن لا يعلم أنّ العبادات على اختلافها وأنّ القربات أو الطاعات المتعددة المتنوعة التى ينوه بها كتاب الله عزّ وجلّ من الأعمال المبرورة من اليسير أن يتبين الإنسان المسلم الواعي، والذى يصغي السمع إلى كتاب الله عزّ وجلّ بين الحين والآخر يجد الفرق بين ما هو صالح وفاسد من الأعمال.
ولكن الشرط الأخير هو ألاّ يقصد بالعمل الذى يقوم به إلاّ ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، إلاّ التقرّب إلى الله عزّ وجلّ، إلاّ تنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى، هذا الشرط الثاني من الصعوبة بمكان، والسبب في ذلك أنّ الرعونات النفسية من شأنها أن تتدخل، وأنّ مصالح الإنسان الدنيوية من شأنها أن تتدخل، وأنّ مشاعر الإنسان تجاه الآخرين وكثيرا ما تتمثل في أحقاد كثيرة، ما تتمثل في شحناء وبغضاء كل ذلك يتدخل، وسرعان ما تصبح هذه الأعمال الصالحة بقيادة النفس وأهوائها، ومن ثم يكون العمل صالح في مظهره، ولكنه يتحول إلى عمل فاسد بسبب سوء القصد استكن في نفسه.
وعن هذا النوع من الناس يتحدث بيان الله سبحانه وتعالى إذ يقول: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ" (هود- 15-16).
أما في قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) لم يتحدث البيان الإلاهي عن العمل ولكنه تحدث عن القصد الدافع إلى العمل، تبين الفرق، من كان يقوم بأعمال فاسدة، لا وإنما قال: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون)، قد يكون الذي يمارسه عمل صالحا، قد يكون أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر بحسب الظاهر، لكنه إنما أراد بعمله هذا مرأى الحياة الدنيا وزينتها، وكلمة الحياة الدنيا كلمة تشمل وتستوعب، المقاصد النفسية المستكنة في كيان الإنسان، تشمل الرعونات، تشمل تغذية الأحقاد والضغائن، تشتمل الكثير والكثير.
يتحدث البيان الإلاهي كذلك محذرا من هذا الذي يخاطبنا به، ليس العبرة بالعمل الصالح بحد ذاته، وإنما العبرة بهذا الذي قادك إلى العمل الصالح ماهو؟.
وهذا المعنى ذاته نتبينه في قول الله عزّ وجلّ: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" (الكهف: 103-104 )
ويقول الإمام إبن القيم رحمه الله: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنّما تتفاضل بما في القلوب (من الإيمان والإجلال). وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: ما عالجت شيئا أشدّ عليّ من نيتي لأنّها تتقلب عليّّ.
قال الإمام سهل بن عبد الله التتري: ليس على النفس شيء أشقّ من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب، وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرفة بن عبد الله: اللهمّ إنّى أستغفرك مما زعمت، إنى أردت به وجهك فخالط قلبى منه ما قد علمت.