الجزء الأول من قراءة معاصرة في ضوابط العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام
واجبات الحاكم نحو المحكومين
طاعته متى تجب ومتى تحرم ؟
حق مراجعته في قراراته
حق الاعتراض عليه متى يباح ؟
كتبه : أبو العلا محمود
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفاه
وبعد
كلنا يعلم الأحداث التي وقعت في عدة دول في الأعوام الماضية ، فقلبت أنظمة كانت تحكم سيطرتها على عشرات الملايين ، طيلة عشرات السنين ، فتبدل الحال وصار بعضها في خبر كان ، وكان هذا مدعاة للسؤال عما إن كان هذا العمل متفقا مع تعاليم الإسلام التي تأمر بمواجهة الظلمة ، أم هي مخالفة لها لما هو معلوم من أن مثل هذه الأعمال ستفضي إلى اقتتال المسلمين ، وأن مواجهة الظلم والظلمة لا تكون بمثل هذا الأسلوب ، ولقد وحكم الكثيرون من العلماء والمثقفين على ما حدث بأنه متفق مع تعاليم الإسلام ، وأطالوا الحديث عنه فترات طوالا في الفضائيات وغيرها ، ولكنهم لم يدعموا آراءهم بمصادر علمية تناولته بما ينبغي من كشف غامضه وتوضيح مبهمه ، وكان لزاما عليهم أن يجيبوا على سؤال مؤداه هل الخروج السلمي والمسلح على الحكومات مما وضعت الشريعة له ضوابط أم تركته للمزاج العام ؟ فإن قالوا إنها قد وضعت له ضوابط ، يقال لهم : هل اطلعتم على ما ورد فيها ؟ فإن قالوا : نعم ، يقال لهم : ما الذي اطلعتم عليه ؟ وما الذي قاله العلماء في ذلك ؟ فهنا يتبين أي المتحدثين أهدى سبيلا ؟
ولقد وتَوَهّم البعض قصور الدين عن ضبط هذه العلاقة ، فأضفوا حكما شرعيا على الأحداث من بنات أفكارهم ، ثم صبغوه بصبغة دينية شرعية ، كما ظنوا أن ما وصل إليه الفكر الإنساني في هذا الشأن يجب علينا بالأخذ به والحرص عليه ، لما يمثله من رقي بمستوى الفرد والمجتمع ، إلا أن من يقرأ الأدلة الشرعية وما قاله أهل العلم فيها ويعمل بمقتضاها ، يجد أنها أفضل مما وصل إليه كبار المفكرين المعاصرين لتعامل الناس فيما بينهم وبين أنظمة حكمهم ، وبالتالي فحين يعمل بها سيفوز يوم القيامة ، كما أنه سيستفيد في الدنيا أكثر مما لو استبعدها ، وهذا يوجب تسليط الضوء على تلك الأدلة وما قيل فيها ، فأمتنا تمر بمنعطف خطير ، وساهم بعض الفقهاء في جعلنا نختصم ونقتتل بما لم يسبق له مثيل في تاريخنا الطويل ، وانقسم العلماء إلى فريقين ، لم يقل أي منهما كل ما ينبغي قوله ، ولو قالوه لاجتمعت الكلمة وما تشتت الأمة ، وعلم الجميع كيفية علاج ما يقع من خلل من الحكام والمحكومين على حد سواء ، بعيدا عن الأهواء ، دون أن يضر بأي منهما.
بدأ الربيع العربي عندما أوقدت شرارته الأولى في تونس ، ورآى بعض العلماء وغيرهم من المثقفين أن الحاكم إن لم يلتزم تعاليم الإسلام فللناس عزله ولو أريقت الدماء وتفككت البنية الاجتماعية ، ونظرا لصعوبة مراجعة أمهات الكتب في المسألة على بعض القراء اقتضى الأمر نقل كلامهم مفصلا ، لفهم الآراء فهما مستقلا دون توجيه مباشر أو غير مباشر.
وبما أن الحكم الآن يدار عن طريق أجهزة حكومية متكاملة ، فسيتم الربط بين الأدلة ودلالاتها من جهة ، وبين تطبيقها على واقعنا اليوم ، وبهذا الأسلوب في الحكم من جهة أخرى ، لجسر الهُوّة بين الأدلة الشرعية وأقوال العلماء فيها ، وبين واقعنا الذي نعيشه ؛ وسيشتمل على المسائل التالية من هو الحاكم ؟ وهل له اسم محدد ؟ ـــ حكم تنصيب الحاكم ـــ طرق وصوله ـــ الخلاصة 1 ـــ كيفية البيعة والانتخاب وكيفية البيعة ـــ الخلاصة 2 ـــ صفات أهل الحل والعقد ـــ الفرق بين أهل الحل والعقد وبين الشورى ـــ صفات الحاكم المتفق عليها والمختلف فيها ـــ الطريقة الثانية للوصول للحكم : الاستخلاف ـــ الخلاصة 3 ـــ الطريقة الثالثة للوصول للحكم : الاستيلاء على المنصب بالقوة ـــ نص بيعة عبد الله بن عمر لعبد الملك بن مروان ـــ الخلاصة 4 ـــ تعدد الحكام في العصر الواحد ـــ الخلاصة 5 ـــ واجبات الحكم في الإسلام ـــ الخلاصة 6 ـــ طاعة الحاكم متى تجب ؟ ومتى تحرم ؟ الخلاصة 7 ، 8 ـــ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ـــ مخالفة الحكومة حين تمنع من ضرورات العصر ـــ رسالة إلى المثقفين العرب المعجبين بالحضارة الغربية ـــ الخلاصة 9 ـــ الحق في مراجعة الحاكم ـــ الخلاصة 10 ـــ الاعتراض على الحاكم ـــ الخلاصة 11 ـــ العمل السلمي لعزل الحاكم والإطاحة بالحكومة ـــ بواعث العزل والإسقاط ـــ الباعث الأول : كثرة الظلم ـــ الخلاصة 12 ـــ الباعث الثاني : الفسق والعصيان الخلاصة 13 ـــ الباعث الثالث : منع الناس من حقوقهم في بيت المال ـــ الخلاصة 14 ـــ استقالته واعتزال المنصب ـــ الخلاصة 15 ـــ عزله بقوة السلاح ـــ الخلاصة 16 ـــ أمور نص بعض العلماء على عزله بسببها بالقوة ـــ بيان الدول التي تبيح بعض المحرمات الآن ـــ الخلاصة 17 ــــ قوانين ومواقف صدرت عن بعض حكام اليوم ـــ 1 التسوية بين الذكور والإناث في الميراث 2 الأمر بعدم صوم شهر رمضان 3 رفض العمل بالسنة في التشريع ـــ 4 قصر البعثة النبوية على العرب ـــ حوادث مشابهة أيام الصحابة 5 حذف فعل ( قل ) من سورة الإخلاص 6 نكران الشفاعة والمعراج 7 الأمر بالتاريخ بوفاة الرسول ـــ الخلاصة 18 ـــ الاستعانة على عزله بغير المسلمين ـــ الخلاصة 19 خاتمة في بيان الضوابط ــ مواقف العلماء المعاصرين من الحكام ومن قضايا الأمة ـــ الخلاصة 20 ـــ نظرة في الربيع العربي على ضوء أحداث مصر وليبيا وسوريا ـــ أحداث مصر ـــ مآخذ بعض خصوم مبارك عليه ـــ الخلاصة 21 ـــ أحداث ليبيا ـــ الروافد الداخلية ـــ الروافد الخارجية ـــ وثيقة أمريكية لإسقاط القذافي وبشار وغيرهما ـــ مفهوم يجب تصحيحه ـــ رأي الشيخ محمد الغزالي في القذافي ـــ مآخذ بعض خصوم القذافي عليه ـــ (ا) انقلابه على نظام شرعي (ب) منعهم من حقهم في الثروة (ج) قتل أعدادا منهم في فترات (د) ردته (ه) منعهم للحريات العامة (و) أنه جعلهم يأكلون الحرام (ز) كثرة قراراته التي يرفضها الناس (ح) سوء معاملة أسر من قاتلوا في تشاد وأوغندا (ط) هل سرقت الثورة الليبية ؟ الخلاصة 22 ــ أحداث سوريا ـــ الخلاصة 23 ـــ تنوع الحكام في النصوص الشرعية ـــ الخلاصة 24 ـــ البغاة في نظر الفقهاء ـــ تعريف البغاة ـــ أحكامهم : 1 أنهم عصاة وليسوا كفارا ـــ 2 أنه يستوي في هذا الحكم : خروج الناس على الحاكم العادل وغيره ـــ 3 أن قتالهم واجب على الحكومات ـــ 4 أن دعوتهم للكف عن البغي غير واجبة ـــ 5 جواز قتالهم بأي سلاح ولو أضرّ بغيرهم ـــ 6 جواز قتل الأقارب منهم والجيران ومعاقبتهم ، إلا الأب ـــ 7 أنه يجب على الناس معاونة الحكومات على قتال البغاة ـــ 8 أن من مات ممن يقاتل مع الحكومة شهيد ـــ 9 عدم جواز الصلاة على من مات من البغاة ــــ 10 أنهم لا يغسلون عند بعض العلماء 11 أنهم في نظر العلماء فاسقون ظالمون غاصبون ـــ 12 أن من مات منهم فميتته جاهلية ودمه مهدور لا تعويض فيه ـــ 13 أن للحاكم الاستعانة عليهم بغير المسلمين .
من هو الحاكم ؟ وهل له اسم محدد ؟
كل من يحكم قطرا من أقطار المسلمين فهو ولي الأمر في ذلك القطر عند الفقهاء دون تحديد لكيفية وصوله ، ولا للفظ المسمى به ، وسواء توفرت فيه شروط الإمامة أم لا ، إذ إنه منذ قيام الدولة الأموية حكمَ المسلمين حُكامٌ لا تتوفر فيهم الشروط ، ومع ذلك فقد قبل بهم من عاصرهم من الصحابة والتابعين حكاما لهم ، وهم خير القرون وأكثر إحاطة بنصوص الشريعة وفهما لمقاصدها ممن جاء بعدهم ، فولي الأمر إذا : هو الذي يحكم قطرا من الأقطار ، بغض النظر عن توفر شروط الإمامة فيه وعدمها ، وعن طريقة إدارته للبلاد.
وليس في القرآن الكريم لفظ ولي الأمر ( الحاكم ) بصيغة الإفراد ، وإنما جاء التعبير عنه بصيغة الجمع ، في قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا " وقوله : " وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا " ولذلك سيكون الحديث عنه بصيغة الجمع ، وبعض كتب التفسير توضح مفهومه الشرعي ، كالذي نقله الطبري من قدامى المفسرين في تفسيره لآية : " يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " عن زيد بن أسلم : أن المراد بهم العلماء الذي يُطيفون على السلطان ، أي يتصلون به ويجالسونه ؛ وعن أبي هريرة : أن المراد بهم الأمراء .
وصحح الثعالبي في تفسيره المسمى الجواهر الحسان للآية المذكورة : أن المراد بهم العلماء والأمراء ؛ وقال : " أما الأمراء : فلأن الأمر منهم والحكم إليهم ، وأما العلماء : فلأن سؤالهم متعين على الخلق ، وجوابهم لازم ، وامتثال فتواهم واجب ".
أما ابن كثير فصحح في تفسير الآية كذلك أن المراد بهم العلماء ، وقال : " المراد بهم العلماء في أصح الأقوال ، لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء ، ولا ينعكس " أي ولا ينعكس الحكم ، بحيث يجب على العلماء طاعة الأمراء.
وذهب المراغي في تفسيره للآية إلى أنهم : " الأمراء ، والحكام ، والعلماء ، ورؤساء الجند ، وسائر الرؤساء ، والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة " ونحوه للشيخ محمد عبده في تفسير المنار ، وفي بعض كلامه رد على ما اختاره ابن كثير من أنهم العلماء ، فذكر أن العلماء قد يختلفون في بعض المسائل ، فمن الذي يجب عليهم اتباعه منهم حين يختلفون ؟.
ومن أواخر المفسرين تناول ابن عاشور معناه لغة ، فقال في تفسير الآية : وأولي الأمر يعني ذويه ، وهم أصحاب الأمر والمتولون له ؛ والأمر هو الشأن ، أي ما يُهتمّ به من الأحوال والشؤون ، فأولو الأمر من الأمّة ومن القوم : هم الذين يسند الناس إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم ، فيصير الأمر كأنّه من خصائصهم ، فلذلك يقال لهم : ذوُو الأمر ، وأولو الأمر ، ويقال في ضدّ ذلك : ليس له من الأمر شيء ؛ وأضاف : " وأولو الأمر : هم الذين يطلق عليهم أيضاً أهل الحلّ والعقد " وفي تحديد معنى ( الأمر ) لغة بصورة أدق قال : " والأمر : الشأن والحال المهم ".
وتحدث عن معنى الإمامة من علمائنا الأوائل : إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في كتاب غياث الأمم ، وقال عنها : " الإمامة رئاسة تامة ، وزعامة عامة ، تتعلق بالخاصة والعامة ، في مهمات الدين والدنيا ، مضمونها حفظ الحوزة ، ورعاية الرعية ، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف ، وكف الخَيف والحيف ، والانتصافُ للمظلومين من الظالمين ، واستيفاء الحقوق من الممتنعين ، وإيفاؤها على المستحقين " .
فهذه أقوال بعض العلماء في معنى أولي الأمر ، وأقربها للصواب والله أعلم ما ذكره العلامة ابن عاشور من أن المراد بهم أصحاب الشيء الذي يريد الناس معرفة ما يصلحهم فيفعلونه ، وما يفسدهم فيجتنبونه ، ويكون لواحد منهم المرجع في الأمور التي أوجب الله طاعتهم فيها.
وولي الأمر واحد من هؤلاء ، يقوم بما ذكر من الأعمال أو غيرها ، سواء سميناه رئيسا ، أو ملكا ، أو أميرا ، أو سلطانا ، أو إمبراطورا ، أو أي اسم آخر ، فكل حاكم فعلي للقطر الذي يدير شؤونه هو ولي أمره ، وعليه واجبات نحو الناس ، وله عليهم حقوق سيأتي ذكرها.
ومما تقدم يتبن أن أولي الأمر هم أصحاب الشأن ، فأي شأن من شؤون الحياة له باحثون متخصصون وخبراء عمليون ، وبحكم خبرتهم في مجالاتهم تلك فهم الذين يأمر ديننا الإسلامي أن نرجع إليهم ، فحين يكون المجتمع بصدد البحث عن حل لأي شأن من شؤونه ، وبحاجة لمعرفة ما فيه مصلحة وما فيه مفسدة فإنه ينيط بهم بيان وجه الصواب ، وهم فيما بينهم سيصلون من خلال بحوثهم المتخصصة إلى رأي واحد ، ورأيهم ملزم لغيرهم ما لم يصادم نصا شرعيا مما له أدلة صريحة ، فإن صادمه فلا يجوز العمل به لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ويشير ما تقدم من كلام الشيخ ابن عاشور إلى أن أولي الأمر هم هيئة مكونة من عدد من الخبراء المتخصصين في كافة المجالات الحياتية للأمة بمختلف أعمارهم وتخصصاتهم ، فيتولى كل فريق منهم تسيير الأمور في الشأن الذي تخصص فيه ، شرط أن لا يخالفوا تعاليم الإسلام ، فإن خالفوها فلا عبرة بكلامهم ؛ ويترأس خبراءَ كل فريق أحدُهم باختيارهم ، ويسمى اليوم : الوزير ، ومن مجموعهم تتألف حكومة برئاسة أحدهم ؛ وولي الأمر ( الحاكم العام ) ينظم عملهم ، لكي لا يحدث تداخل بينهم.
حكم تنصيب الحاكم ، طرق وصوله
أولا : تنصيب ولي الأمر
بعد أن عرفنا من هو ولي الأمر ( الحاكم ) يجدر بنا معرفة حكم نصبه لإدارة أمور المسلمين في أي قطر من أقطارهم ، إن نصبه فرض كفاية عليهم ، كما صرح به بعض العلماء ، وتنصيبه من قبل البعض يغني عن الباقين ، ويكون اختياره من أهل الحل والعقد لا من عامة الناس ، فعامة الناس لا يهتمّون بالكفاءة ولا يركزون عليها ، وقد يختارون من لا يعرفونهم ، وهذا يشبه شهادة الزور ، لأنهم قد شهدوا بكفاءته وهم لا يعلمون.
ثانيا : طرق وصوله للمنصب
في هذا الشأن وقع كثير من المفكرين المسلمين في خطإ بما ظنوه من أن الوصول للمنصب له طريق واحد هو البيعة ، وبناء على هذا الخطإ رأوا أن من لا يصل باختيار أهل الحل والعقد فوجوده في منصبه غير شرعي ، ولو سلمنا بهذا فإن من تولى الحكم بغير البيعة لا شرعية له بدءا بعمر بن الخطاب الذي تولى بوصية أبي بكر ، وليس ببيعة أهل الحل والعقد ولا غيرهم ، فالحق أن البيعة طريق من عدة طرق تناولها فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم ، وذكروا أنها ثلاث ، أولها : اختياره من أهل الحل والعقد ( البيعة ) ثانيها : الوصية له ممن قبله ، ثالثها : تغلبه عليه وانتزاع الملك منه ، هذه كلها طرق يمكن للفرد الوصول عن طريقها ، وسيتم تناول هذا كله فيما يلي : ــ
الطريقة الأولى : البيعة
تعريفها : جاء في تعريفها في العمدة : " عبارة عن المعاقدة عليه والمعاهدة ، فإن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه ، وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره "
وهي الطريقة الوحيدة التي يفضلها فقهاء الإسلام وقد وضعوا ضوابط لها ، سواء للذين يختارون من سيحكم ، أو الذي سيقع عليه الاختيار ، وهي تشبه العقود المبرمة بين طرفين لكل منهما حقوق وعليه واجبات ، فعلى الحاكم التزام تعاليم الإسلام في تشريعاته ، وعلى الناس السمع والطاعة له ؛ فإن حصل خرق من أي منهما فهناك ضوابط محددة يجب اتباعها ، ومن خالفها فهو عاص ، فإن وقع الخلل من الناس كيف يرد الحاكم على ذلك ؟ والجواب أن هذا ما سيذكر عند الكلام على البغاة ؛ وإن وقع منه فكيف يُتعامل مع هذا التطور السيئ منه ؟ سيتم الحديث عنه هنا.
الصواب أنه ينظر في مخالفة الحاكم للأدلة هل هي كفر صريح ؟ حينها يسقط حق السمع والطاعة ويعزل ، وهل ولو أريقت دماء ووقعت فتنة ؟ لم يصرح العلماء بهذا ولا بخلافه ، أما لو لم تكن كفرا بواحششا ، أو كانت ظلما وعصيانا ، ففي مثل هذه الحال يجوز عزله إذا تحققوا الأمن من الفتنة والظلم وإراقة الدماء ، وإلا فلا يجوز ؛ وأما عزله سلميا من دون سبب فلا يجوز ، وعن أن الإمام لا يعزل دون ضوابط علمية قال إمام الحرمين في كتابه : " ولو تخيّر الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختيار ، لما استتب للإمام طاعة ، ولما استمرت له قدرة واستطاعة ، ولما صح لمنصب الإمامة معنى " .
وهذا هو الحق ، إنّ عزله لمجرد أن البعض يريدون ذلك ويصرون عليه ، يستلزم عدم استتباب الأمر لأي حاكم في أي بلاد ، فلا بد من ضابط مستمد من دليل شرعي لعزله سلميا أو بقوة السلاح ، ويجب ملاحظة هذه الضوابط ، وستأتي.
وقد انزلق بعض الفقهاء المعاصرين في مسألة تولي المنصب ، فأوهموا الناس ( وربما توهموا هم أيضا ) أنها واحدة ليس ، ومن هنا كثر كلامهم عن أن الحاكم لا بد أن تتوفر فيه شروط معينة ، وأن عليه أن يلتزم بما بايعوه عليه ، فإذا أخل به فلهم عزله ، سلميا أو بالقوة ، والحقيقة أن البيعة إحدى طرق الوصول للحكم ، وهي ثلاث لا واحدة ، وقد تحدث عنها كلها عدد من الفقهاء ، فقال البهوتي في الإقناع : " ويثبت بإجماع المسلمين عليه ، كإمامة أبي بكر من بيعة أهل الحل والعقد من العلماء ووجوه الناس ، بصفة الشهود ، أو يجعل الأمر شورى في عدد محصور ، ليتفق أهلها على أحدهم فاتفقوا عليه ، أو بنص من قبله عليه ، أو باجتهاد ، أو بقهره الناس بسيف حتى أذعنوا له ودعوه إماما " وفي دقائق أولي النهى نحوه مع تنوع يسير في العبارة ، قال : " ويثبت نصب الإمام بإجماع أهل الحل والعقد على اختيار صالح لها مع إجابته ، كخلافة الصديق ، فيلزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد له ؛ ويثبت أيضا بنصّ إمام بالإمامة لمن يصلح لها ، ناصّا عليه بعده ، ولا يحتاج في ذلك إلى موافقة أهل الحل والعقد ، كعهد أبي بكر إلى عمر في الخلافة ، ويثبت أيضا باجتهاد ، لأن عمر جعل أمر الإمامة شورى بين ستة من الصحابة ، فوقع الاتفاق على عثمان رضي الله عنه ".
ففي بعض ما تقدم ذكرت طرق عديدة توصّل للمنصب ، ومنها التولي بالقوة ، وأن من يتولى بالقوة لا يفتقر إلى موافقة أهل الحل والعقد ، وفي بعضها التنصيص على التولي بالقوة ، وليس في غيره أن من يتولى بها لا تصح إمامته.
وفي حاشية الدسوقي على الشرح الكبير : " اعلم أن الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة :إما بإيصاء الخليفة الأول لمتأهّل لها ، وإما بالتغلب على الناس ، لأن من اشتدت وطأته بالتغلب وجبت طاعته ؛ ولا يراعى في هذا شروط الإمامة ، إذ المدار على درء المفاسد وارتكاب أخف الضررين ، وإما بيعة أهل الحل والعقد ".
فذكر الطرق الثلاثة وضمن حديثه أوضح أن من يتولى المنصب بالقوة لا تشترط فيه شروط الإمامة ، فثمة أمر أهم من ذلك ، وهو درء مفسدة اقتتال المسلمين وإراقة دمائهم ، وإذا وجد المسلمون أنفسهم بين مفسدتين فالواجب المقارنة بينهما ، فما كانت منهما أعظم فإن الإقدام عليها حرام ، وفق قاعدة ارتكاب أخف الضررين.
هذا ما يراه الدسوقي في المسألة ، وفد يعترض على هذا بأن الأولى عدم تمكين من يستولي بالقوة إذا كان لم يكن كفئا ، غير أنه لو قيل بعدم تمكينه ووجوب إقصائه بالقوة لكان ذلك أمرا غير مباشر للمسلمين بالاقتتال ، فبعد أن تولى المنصب لن يقبل بعزله ، وسيقتتل الفريقان ، وهذا لا يجوز شرعا ، فلا مناص من القول بوجوب الانقياد له مهما كانت صفته وسيرته.
وفي المجموع : " وتنعقد الإمامة بالبيعة ، والأصح بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم ، وشرطهم صفة الشهود ، وباستخلاف الإمام ، فلو جعل الأمر شورى بين جمْع فكاستخلافٍ ، فيرتضون أحدهم ، وباستيلاء جامع الشروط ، وكذا فاسق وجاهل في الأصح ".
لقد ذكر هو الآخر أن الحاكم يصل إلى منصبه بالطرق الثلاث المذكورة ، ثم أوضح أمرين ، أولهما : أن القول الأصح في المذهب هو أن أهل الحل والعقد المذكورين ممن يتيسر اجتماعهم لمبايعته هم الأحق ببيعته من سواهم ، ومن يتيسر اجتماعهم هم سكان العاصمة لسهولة معرفة صحته وحياته ؛ ثانيا : أن الأصح جوزا بيعة كل من الفاسق والجاهل ، وفي هذا ما فيه ، فلو عمل الناس به بصورة مطلقة للزم منه المساواة بين الصالح والفاسد من المسلمين في تولي هذا المنصب الخطير ، وسيستعين الفاسقون به في الفسق والعبث في ذلك المجتمع ، وسيكون لهم القول الفصل في قضاياه الداخلية والخارجية ، ولا يتوقع أحد من مثل هذا وأشباهه أن يحافظوا على حدود الله.
وفي المقابل لو ألغوها بصورة كلية فما الذي سيفعله المسلمون لو لم يكن بينهم في عصر من العصور من تتوفر فيه الشروط المعتبرة في ولي الأمر ؟ فالحق أن هذا القيد لا يصار إليه إلا عند انعدام من تتوفر فيه الشروط ، ما لم يصل أحد للمنصب بالقوة فجأة.
وفي حاشية رد المحتار أن الإمام يصل بالطرق الثلاثة ، وقال : " يصير إماما بالمبايعة ، وكذا باستخلاف إمام قبله ، وكذا بالتغلب والقهر " وأوضح أنه إذا علموا أنهم لو عزلوه بالقوة ستقع فتنة فلا يجوز عزله ، قال : " لو تعذر وجود العلم والعدالة فيمن تصدى للإمامة وكان في صرفه عنها إثارة فتنة لا تطاق حكمنا بانعقاد إمامته ، كي لا تكون كمن يبني قصرا ويهدم مصرا ".
والمتولي بالقوة طاعته واجبة ، فقد جاء في المغني : " ولو خرج رجل على الإمام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له ، وأذعنوا بطاعته ، وتابعوه ، صار إماما يحرم قتاله والخروج عليه " وهذا أمر متفق عليه بين العلماء ، جاء في فتح الباري : " وقد أجمع العلماء على وجوب طاعة السلطان المتغلب " وسيأتي الكلام على الطريقتين الأخريين.
الخلاصة 1
أن الحاكم يصل لمنصبه بطرق ثلاثة ، لا بالبيعة من قبل أهل الحل والعقد كما يريد أن يصوره كثير من المفكرين والمثقفين المسلمين اليوم ؛ وأن من يصل بالإيصاء لا يحتاج لموافقة أهل الحل والعقد ، ومن يتولى بالقوة لا تشترط فيه شروط الإمامة.
حكم البيعة والانتخاب وكيفية البيعة
حكم البيعة الوجوب على الجميع ، أما الانتخاب فغير واجب ، لما فيه من خبث يعرفه من كل من يتابع ما يجري في الدول التي تتبناه منذ عقود ؛ وعليه ، فمن انتخب فلا إثم عليه ومن تخلف فلا إثم عليه ، وسيأتي تفصيله.
كيفية البيعة
حيث كانت البيعة واجبة فقد وضع لها العلماء ضوابط وأوضحوا كيفيتها ، وهي تختلف باختلاف الأشخاص من حيث قربهم من مقر إقامة الحاكم وبعدهم عنه ، وأيضا وضعهم الاجتماعي ، هل هم ممن يعملون ممثلين له في مقر إقامتهم ، كالمحافظين حاليا ومدراء الأقاليم ، أو هم من عامة المسلمين ؟ وقد تحدث عن حكمها وكيفيتها عدد من علمائنا ، فمنه ما قاله القرطبي : " هي واجبة على كل مسلم ، غير أنه من كان مِن أهل الحل والعقد والشهرة فبيعته بالقول ، والمباشرة باليد إن كان حاضرًا ، أو بالقول والإشهاد عليه إن كان غائبًا ، ويكفي من لا يُؤْبَهُ لهُ ولا يُعْرَف : أن يعتقد دخوله تحت طاعة الإمام ، ويسمع ويطيع له في السرّ والجهر ، ولا يعتقد خلافًا لذلك ، فإن أضمره فمات ، مات ميتة جاهلية ، لأنه لم يجعل في عنقه بيعة " وإنما حكم بأن ميتته جاهلية لحديث : " ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " فالبيعة واجبة ، ويكفينا نحن العامة الرضا به حاكما فقط.
أما من هم من أهل الحل والعقد فقد ذكر أن من كان منهم قريبا من موضع الحاكم ( العاصمة ) يجب عليه أن يبايع باليد ، ومن كان منهم بعيدا عن مقره كالمحافظين والولاة فالواجب عليه التعبير عن ذلك علنا ، وإشهاد الناس أنه بايع فلانا حاكما ؛ وأما من كان من عامة الناس فلم يكن من أهل الحل والعقد ولا يأبه به أحد ولا يعرفه إلا القليلون ، فيجب عليه أن يضمر في نفسه القبول به ، وأنه داخل في طاعته ؛ وأخيرا أوضح أن من أضمر من المسلمين في نفسه عدم القبول به حاكما ، وعدم الدخول في طاعته واستمر على ذلك حتى مات ، فقد مات ميتة جاهلية ، لأنه مات وليس في عنقه بيعة للإمام الذي اختاره غيره من المسلمين ، وعليه ، فليس للبيعة عنده صورة واحدة ، بل صور متعددة تختلف باختلاف المبايع.
ويوضح القاضي عياض أنه لا تجب مصافحة من يختارونه ، وأن بيعة البعض تغني عن بيعة الباقين ، وعن هذا قال في الإكمال : " ويكتفىَ في بيعة الإمام بآحاد من أهل الحل والعقد ، ولا يفتقر إلى بيعة كل الأمة ، ولا يلزم كل الأمة أن يأتوا إليه يضعون أيديهم بيده ، وإنما يلزمُ إذا عقد أهل الحل والعقد : انقيادُ البقية ، وألا يظهروا خلافا ، ولا يشقوا العصا " .
وعدم وجوب البيعة بالمباشرة باليد على الناس كلهم مرده والله أعلم إلى أمور ثلاثة ، هي : أن وجوب مصافحة من اختاره أهل الحل والعقد من جميع الناس فيه مشقة على المسلمين المقيمين في مناطق بعيدة عن موضع إقامة الحاكم.
ثانيا : أن معظمهم لا يعرفون من يختاره أهل الحل والعقد معرفة كافية ، فحين يختارونه هم أيضا سيكونون بمثابة من يشهد بكفاءته ، وهذا بمنزلة شهادة الزور ، فمن لا يعرف كفاءته ليس له أن يبايعه ولا أن يعترض عليه.
ثالثا : أن الغالب على اعتبارات اختيارهم الحزبية أو الجهوية أو العرقية ، وليس الكفاءة العلمية والجسمية ، وهما أمران جاء ذكرهما في سورة البقرة فيمن اختاره الله ملكا على بعض بني إسرائيل حينها ، قال سبحانه : " قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ " فلذلك لا بد من مراعاتهما فيمن يريدونه حاكما ، بعكس الثراء ، فلا أهمية له شرعا.
الخلاصة 2
أن البيعة فرض على كل مسلم ، وأن كيفيتها مختلفة ، فأما من هم على مقربة من الحاكم فيجب أن يصافحوه ، وأما البُعَدَاء فيجب أن يشهدوا الناس على رضاهم به حاكما ، وأما عامة الناس فبيعتهم بالنية في القلب ، فلا يضمروا مخالفة الإمام الذي بايعه غيرهم.
وأما الانتخابات العامة التي يشترك فيها الجمهور فلا تجب المشاركة فيها ، وينبغي تجاهلها ، فلها من العيوب ما يجعل العاقل ينأى عنها ما دامت بهذه الصورة ، ومن الصعب القول بحرمتها ، لإمكان تلافي عيوبها مستقبلا
صفات أهل الحل والعقد
بما أن البيعة ينبغي أن يقوم بها أهل الحل والعقد فهذا يقتضي معرفتهم ، أهل الحل والعقد هم من اكتسبوا نفوذا بين ذويهم ، ولهم حضور وتأثير قوي في مجتمعهم ، ويجب أن توفر فيهم صفات وضعها العلماء على أسس علمية وليس بطريقة عشوائية ، لأنهم سيختارون الحاكم ؛ ولا يعرف الفقهاء مبدأ إشراك جميع الناس في الاختيار ، لما تقدم من الأسباب ، وربما غيرها.
فمن الصفات التي ذكرها العلماء في أهل الاختيار هؤلاء : (أ) العدالة ، وتتمثل في : الإسلام والعقل والبلوغ المروءة.
(ب) العلم بالشروط التي يجب مراعاتها في ولي الأمر.
(ج) الرّأي والحكمة ، اللذان يؤدّيان لاختيار الأصلح للمسلمين من عدد منهم.
(د) قوة النفوذ والشّوكة ، الّتي تحمل الناس على اتباعهم ، والقبول بمن يختارونه.
(هـ) النّصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم.
الفرق بين أهل الحل والعقد ، وأهل الشورى
كما أن هناك من يطلق عليهم أهل الحل والعقد في الفقه الإسلامي ، فثم من يطلق عليهم أهل الشورى ، وهناك فارق بينهما ، وهو أن أهل الشورى يتميزون بالعلم والقدرة على الفتوى في مختلف المسائل ، فيجب في من يكون من أهل الشورى في أي قطر أن يكون عالما ، في حين يتميز أهل الحلّ والعقد بقوة الشّوكة والنفوذ بين الناس .
ففي عصر الخليفة الراشد أبي بكر كان عدد من الصحابة تنطبق عليهم صفات أهل الشورى ، فتذكر المصادر التاريخية أنّه رضي الله عنه كان إذا هَمّه أمر من الأمور استدعى ، عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وأبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، وعبد الرحمن بن عوف ؛ وكلهم علماء لهم القدرة على الفتوى في مختلف القضايا فكان يستشيرهم في مهمات الأمور ، وهم أهل الشورى يومها.
أما أهل الحل والعقد في عصره فلم يكونوا من أهل العلم كمن سبقهم ، وقد كان منهم : سعد بن معاذ ، وهو سيد الأنصار ، واشتهر بالنفوذ بينهم أكثر من اشتهاره بالعلم ، ومنهم : بشير بن سعدٍ الخزرجي ، وهو من أوائل من بايع أبا بكر ، ولم يكن من المفتين ولا من العلماء ، إلا أنه كان له نفوذ في قومه ، يصدرون عن رأيه ، ولا يخالفونه في حكمه ؛ كما كان بين الصحابة من هو من أهل الحل والعقد ومن أهل الشورى.
صفات الحاكم
إن الكلام عن الحاكم هنا يشمل الرئيس والملك والأمير ، ورئيس الوزراء ، ولا يشمل الوزراء ، وصفات من يختارونه للمنصب بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه .
أولا : المتفق عليها :
(أ) الإسلام ، وهو شرط في جواز أداء المسلم للشّهادة وهي أدنى من مرتبة الإمامة العامة ، وعليه مراعاة مصلحتهم ، ولا يتأتى هذا إلا من مسلم ، فيسقط بداهة قول من قال إن ولي الأمر قد يكون كافرا ، كما سيأتي.
(ب) التكليف ، ويشمل العقل والبلوغ ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " عوذوا بالله من إمارة الصبيان ، إن أطاعوهم أدخلوهم النار ، وإن عصوهم ضربوا أعناقهم " .
(ج) الذكورة ، لما روي عن أبي بكرة قال : لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل ، لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارسا ملكوا ( بتشديد اللام ) ابنة كسرى قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " وذلك أنه ستناط به أعمال خطيرة تتنافى مع طبيعة الأنثى.
(د) الكفاءة ، ولو بمستشاريه ، فيكون قيّماً بأمر الحرب والسّياسة ، يزجر المجرمين ، وينصف المظلومين ، ويفعل ما سوى ذلك من حاجات ومصالح المسلمين.
(ه) الحرية ، فلا تصحّ إمامة العبد سواء كامل العبودية أو مجزّءا ، لأنهما مشغولان بخدمة سيّد هما .
ثانيا : المختلف فيها
أ – العدالة ، والقدرة على الاجتهاد ، وقد ذهب البعض إلى اشتراطهما ، وأنه لا يجوز اختيار الفاسق أو المقلّد في حال وجود غيرهما ، وذهب بعضهم إلى أنّهما شرط كمال ؛ وخلاصة هذا في الاستذكار ، فقال : " وأما قوله : ألا ننازع الأمر أهله ، فقد اختلف الناس في ذلك ، فقال القائلون منهم : أهله أهل العدل والإحسان والفضل والدين ، مع القوة على القيام بذلك ، فهؤلاء لا ينازعون ، لأنهم أهله ، وأما أهل الجور والفسق والظلم فليسوا بأهل له " وكلامه هذا يصلح متمسكا لمن يريدون اختيار حاكم ، لا من وصل لكرسي الحكم ، ثم أورد رحمه الله أدلتهم على ذلك ومن رآى هذا الرأي فقال : " واحتجوا بقول الله عز وجل لإبراهيم : إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " ثم قال : " وبهذه اللفظة وما كان مثلها في معناها مذهب تعلقت به طائفة من المعتزلة ، وهو مذهب جماعة الخوارج " وأوضح مذهب أهل السنة ممن وصل للمنصب بالقوة وأراد البعض عزله بالقوة فقال : " وأما جماعة أهل السنة وأئمتهم فقالوا : هذا هو الاختيار ، أن يكون الإمام فاضلا ، عالما ، عدلا ، محسنا ، قويا على القيام بما يلزمه في الإمامة ، فإن لم يكن فالصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه " ولبيان العلة في النهي عن عزل أئمة الجور بالقوة قال : " لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف ، وإراقة الدماء ، وانطلاق أيدي الدّهماء ، وتبييت الغارات على المسلمين والفساد في الأرض ، وهذا أعظم من الصبر على جور الجائر " .
ومعلوم أن المراد بالعدالة هنا عدم الفسق ، بحيث لا يكون ممن يأتون المنكرات ، وليس المراد بها عدم الظلم والجور ، فأهل الحل والعقد يمكنهم الحكم على من يريدون اختياره من حيث الفسق لا من حيث الجور وعدمهما ، ، وعدم الفسق ؛ وليس المراد بها عدم الجور والظلم ، فهذا إنما يعرفه أهل الحل والعقد بعد وصول من اختاروه لمنصبه ، أما قبل ذلك فلا ؛ وهذا مختلف فيه ، وبعض الصفات التي تتحقق بها العدالة قد يختلف العلماء فيها ، فلذا وقع الاختلاف في اشتراطها ، وإذا كان هناك قدر مشترك للعدالة بينهم فهناك أمور يختلفون فيها ، ففي مثل هذه الحالات سيقول فريق من الناس : بما أنه قد قال كذا أو فعل كذا ، وهذا قادح في العدالة ، فقد أضحى غير عدل ، ويجب التعامل معه كأي حاكم فقد شرط العدالة ، وفي مقابلهم فريق آخر يقول إن ما ذكر غير قادح فيها ، وما زال له كافة حقوقه ، كما أن المسلمين قد يجدون أنفسهم في عصر لا وجود لمن تتوفر فيه الشروط ، فلو قيل بلزومها للزم من ذلك عدم اختيار ولي أمر مطلقا.
والرأي القائل بأنها شرط كمال أقرب ، فالعدالة أمر نسبي ، وأحيانا يختلف الناس في تقييمهم للسلوك الواحد في تجريح فاعله وعدم تجريحه ، أو في كونه ظلما أو ليس ظلما ، وإن كان من المُسَلم به أنهم يتفقون في الحكم على أشياء أخرى ؛ وهذا قرره الجويني في غياث الأمم بقوله : " المصير إلى أن الفسق يتضمن الانعزال والانخلاع بعيد عن التحصيل ، فإن التعرض لما يتضمن الفسق في حق من لا يجب عصمته ظاهر الكون سرا وعلنا ، عامّ الوقوع ، وإنما التقوى ومجانبة الهوى ومخالفة مسالك المنى ، والاستمرار على امتثال الأوامر ، والانزجار عن المناهي والمزاجر ، والإرعواء عن الوطر المنقود ، وإنحاء الثواب الموعود ، هو البديع ، والتحقيق إنه لا يسْتدّ على التقوى إلا مؤيد بالتوفيق ، والجبلات داعية إلى اتباع اللذات ، والطباع مستحثة على الشهوات ، والتكاليف متضمنها كلف ، وعناء وسواس الشيطان وهواجس نفس الإنسان متظافرة على حب العاجل واستنجاز الحاصل ، والجبلة بالسوء أمّارة ، والمرء على أرجوحة الهوى تارة وتارة ، والدنيا مستأثرة ، وباب الثواب محتجب مغيب ، فطوبى لمن سلم ".
ثم قال أيضا : " فكيف يخفى على منصف أن اشتراط دوام التقوى يجر قصاراه عسر القيام بالإيالة العظمى ، ثم لو كان الفسق المتفق منه عليه يوجب انخلاع الإمام أو خلعه ، لكان الكلام يتطرق إلى جميع أفعاله وأقواله ، على تفنن أطواره وأحواله ، ولما خلا زمن عن خوض خائضين في فسقه ، المقتضى خلعه ".
وختم كلامه بالقول : " والذي يجب القطع به أن الفسق الصادر من الإمام لا يقطع نظره ، ومن الممكن أن يتوب ويسترجع ويؤوب ، وقد قررنا بكل عِبَر أن في الذهاب إلى خلعه وانخلاعه بكل عثرة رفض الإمامة ونقضها واستئصال فائدتها ورفع عائدتها وإسقاط الثقة بها واستحثاث الناس على الأيدي عن ربقة الطاعة ".
(ب) الانتساب لقريش ، وهذا يشترطه الجمهور ، لحديث : " الأئمّة من قريشٍ " ولا يشترطه البعض ، لقول عمر رضي الله عنه : " لو كان سالم مَوْلى أبي حذيفة حيّاً لوَليْته " ولا وجود لنص على اشتراط كونه فقهيا ، حافظا للقرآن ، ولا ممن يسمون أنفسهم اليوم حملة المشروع الإسلامي ، فبعض من تولى الحكم أيام الصحابة والتابعين لم يكونوا من حفظة القرآن ، ولا من الفقهاء ، ولا المحدثين ، وقد قبل الصحابة والتابعون بهم حكاما لهم ، إنه لو كان توليهم بالقوة مخالف لتعاليم الإسلام لما قبلوا بحكمهم.
الطريقة الثانية للوصول للحكم : الاستخلاف
الاستخلاف هو أحد الطرق المعتبرة عند فقهاء المذاهب الأربعة كما تقدم ، وهو ليس عقدا بين طرفين كما هو الحال في البيعة ، والقبول بالمستخلف هو امتداد للسمع والطاعة الثابت للخليفة قبله فيما يأمر به من المباحات ، وهل يحتاج لموافقة أهل الحل والعقد ؟ صرح بعض العلماء بعدم احتياجه لها ، ففي كشاف القناع عند قول صاحب الإقناع : " أو بنص من قبله عليه " قوله : " بأن يعهد الإمام بالإمامة إلى إنسان ينص عليه بعده ، ولا يحتاج في ذلك إلى موافقة أهل الحل والعقد ، كما عهد أبو بكر بالإمامة إلى عمر رضي الله عنهما ".
وهذا إن كانت لأجنبي كأبي بكر لعمر ، فإن كانت لغير أجنبي بل من أب لابنه ( كمعاوية ليزيد ) أو عكسه ، فقد ذكر البعض أن المستخلف يحتاج لموافقتهم ، لأنها بمنزلة الشهادة بكفاءته في حكم المسلمين ، وشهادتهما لبعضهما لا تجوز ، وبمنزلة الحكم القضائي له ، وهو غير جائز من أي منهما للآخر كذلك.
وأول من فعله معاوية بن أبي سفيان وقد رفضها بعض الصحابة ، فقد جاء في كتاب الأوائل : " أن معاوية لما أراد البيعة ليزيد كتب إلى مروان ( وهو على المدينة ) فقرأ كتابه على الناس فقال : إن أمير المؤمنين قد كبر سنه ، ورقّ عظمه ، وخاف أن يأتيه أمر الله فيدع الناس حيارى كالغنم لا راعي لها ، فأحَبّ أن يُعْلم علماً ، ويقيم إماماً بعده ، فقيل : وفق الله أمير المؤمنين وسدّدَه ، فليفعل ، فكتب مروان إليه بذلك ، فكتب : أنْ سَمِّ يزيد ، فسماه ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر ، كذبت والله ، وكذب معاوية ، لا يكون ذلك أبداً ، أشِبْهَ الروم ، كلما مات هرقل قام هرقل ؟ ! فقال مروان : هذا الذي قال الله فيه : " والذي قال لوالديه أف لكما " فأنكرت عائشة عليه ذلك ، وكتب مروان إلى معاوية بذلك ، فأقبل ، فلما دنا من المدينة استقبله أهلها ، فيهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير ، والحسين بن علي ، وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم ، فلما رآهم سَبّهم واحداً واحداً ، ودخل المدينة ، وخرج هؤلاء الرهط معتمرين ، ثم خرج معاوية حاجاً فاستقبلوه ، فلما دخلوا عليه رحّبَ بهم وألطفهم ، ثم أرسل إليهم يوماً ، فقالوا لابن الزبير : أنت صاحبُه فكلمْه ، فلما دخلوا عليه دعاهم إلى بيعة يزيد ، فسكتوا ، فقال : أجيبوني ، فقال ابن الزبير : اختر خصلة من ثلاث : إما أن تفعل فِعْل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تستخلف ، أو فِعْل أبي بكر رضي الله عنه نظر إلى رجل من أعراض قريش ، أو فِعْل عمر ، جعلها شورى في ستة ، فقال : ألا تعلمون أني قد عوّدتكم من نفسي عادة أكره أن أمنعكم إياها حتى أبيّن لكم ؟ إني كنت أتكلم بالكلام فتعرّضون فيه ، وترُدّون عليّ ، وإياكم أن تعودوا ، وإني قائم فقائل مقالاً لا يعارضني فيه أحد منكم إلا ضربت عنقه " ثم وكّل بكل واحد منهم رجلين ، وقام خطيباً فقال : إن عبد الله بن عمر ، وابن الزبير ، والحسين بن علي ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، قد بَايَعوا ، فبَايعوا ، فابتدر الناس يبايعون ، حتى إذا فرغ ركب نجائبه ومضى إلى الشام ، وأقبل الناس على هؤلاء يلومونهم ، فقالوا : والله ما بايَعْنا ، ولكن فعل بنا ما فعل " .
وقد يجد البعض صعوبة في تصديق نسبة مثل هذا العمل لمعاوية ، وهو من صحابة رسول الله له من المكانة عند المسلمين ما يضطرنا لاستبعاد قيامه بهذا العمل ، لكن من ينظر نظرة محايدة لا يرى صعوبة في صحة هذه النسبة لمن ذكر ، فمعاوية وإن كان من صحابة الرسول لكنه كغيره غير معصوم ، ومن المستبعد أن يوجد مسلم في مشارق الأرض ومغاربها لديه قناعة بأن صحيفة أعماله يوم القيامة ستكون خالية من السيئات ، وإذا ثبت هذا فالأقرب أن ما نسب له صحيح ، يغفر الله له.
والأنظمة الملكية اليوم في المغرب ، والأردن ، والسعودية ، والبحرين ، وكذلك إمارتي قطر والكويت تدار بهذه الطريقة التي رفضها هؤلاء الصحابة ، وتلك الأقطار تحكم بها منذ ما بعد عهد الاستعمار الغربي ، والاستخلاف بهذه الطريقة أسوإ الطرق من وجهة فقهية ، ومع هذا فإن بعض علماء اليوم يباركها ، ويثنون على أهلها ، وكان يجب عليهم أن يعبروا عن استيائهم منها كما فعل بعض الصحابة الأبرار.
ونائب الرئيس اليوم كالمستخلف قديما ، وللاستخلاف مزايا ربما تجعله من أفضل الأساليب الثلاثة ، فإن من يحكم بلدا عدة سنوات يعرف الكفء للمنصب منهم فيختاره وحده أو معه غيره نائبا عنه ، شرط أن لا يكونوا من عائلته ، بل كما فعل أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ؛ وفي ظل انتشار الجوسسة في العالم فإن اختيار أكثر من نائب يبدو أكثر فائدة للنجاة من مخططات الدول الكبرى أو التقليل من آثارها ، فمنذ عدة قرون كانت تلك الدول تبحث عن الحاكم المرتقب لأي بلد ثم يبحثون على مواطن ضعفه ، وهذا النمط ما يزال قائما حتى اليوم ، والتعدد يجعل التعرف عليه صعبا لأنه مجهول ، وهذا سينعكس إيجابا على الأمة.
الخلاصة 3
أن الاستخلاف يصل به المرء إلى المنصب ، ولا يحتاج لموافقة أهل الحل والعقد ما لم يكن بين الأب وابنه أو العكس ، ومنصب نائب الرئيس بمثابة المستخلف ، والأولى تعددهم.
الطريقة الثالثة للوصول للحكم : الاستيلاء على المنصب بالقوة
الطريقة الثالثة : الاستيلاء على المنصب بالقوة وعزل الحاكم السابق بالقوة ، وهو أيضا طريق يقره الفقهاء ، وأول من فعله عبد الملك بن مروان ، فقد جاء في كتاب المفهم : " كان من شأن ابن الزبير أنَّه لمّـا مات معاوية بن يزيد بن معاوية ولم يستخلف بقي الناس لا خليفة لهم جماديين ( جمادى الأولى ، وجمادى الآخرة ) وأيامًا من رجب ، من سنة أربع وستين ، اجتمع من كان بمكة من أهل الحل والعقد ، فبايعوا عبد الله بن الزبير لتسع ليالٍ بقين من رجب من السنة المذكورة ، واستوثق له سلطان الحجاز ، والعراق ، وخراسان ، وأعمال المشرق ؛ وبايع أهل الشام ، ومصر مروان بن الحكم في شهر رجب المذكور ، ثم لم يزل أمرهما كذلك إلى أن توفي مروان وولي ابنه عبد الملك ، فمنع الناس من الحج لئلا يبايعوا ابن الزبير ، ثم إنه جيَّش الجيوش إلى الحجاز ، وأمَّرَ عليهم الحجَّاج ، فقاتل أهل مكة ، وحاصرهم إلى أن تغلب عليهم ، وقتل ابن الزبير وصلبه الحجَّاج ، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث ليال ، وقيل : لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة في سنة ثلاث وسبعين" .
نص بيعة عبد الله بن عمر لعبد الملك بن مروان
وإذا تولى أحد المسلمين بالقوة أصبح ولي أمر بحكم الأمر الواقع ، وحين يحكم سيطرته على البلاد يصير حاكما شرعا لا يحتاج إلى البيعة ، وقد يبايعه بعض أهل الحل والعقد ، وقد وقع في القرن الأول من عبد الله بن عمر ، عندما بايع عبد الملك بن مروان الذي خلع عبد الله بن الزبير بالقوة ، وقد رواها مالك في موطئه ، فجاء فيه : أن عبد الله بن عمر كان كتب إلى عبد الملك بن مروان يبايعه ، فكتب إليه : " بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد / لعبد الله ، عبد الملك ، أمير المؤمنين ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأقر لك بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما استطعت " .
وربما بما أن من كان معاصرا لعبد الملك بن مروان من كبار الصحابة ، وفي مقدمتهم ابن عمر لم ينادوا بخلع عبد الملك من منصب الخلافة لأنه خلع من اختاره أهل الحل والعقد ، وتولى المنصب بالقوة ، وقبل به الصحابة حاكما لهم ، رآى العلماء أن من يتولى المنصب بالقوة يثبت له حق السمع والطاعة.
وهل ثم صفات يجب توفرها فيه ، فيباح الخروج لعزل من لا تتوفر فيه ؟ الجواب أنه لم ينص أحد على ذلك ، بل هناك من صرح بعدم مراعاتها ، لأن القول بعزله بالقوة سيكون بمثابة أمر للمسلمين بالاقتتال ، وهذا من الكبائر ، وقد نص على عدم اشتراط شروط الإمامة فيه الإمام الدسوقي ، وقد تقدم كلامه ، ويشير له ما جاء في كشاف القناع عن متن الإقناع ، حيث نسب فيه للإمام أحمد قوله : " ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين ، فلا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت ولا يراه إماما ، برا كان أو فاجرا " ففي عدم التصريح بعدم اشتراط شيء فيمن يتولى بالقوة إشارة إلى عدم مراعاته.
إن الإسلام يرفض مبدإ الوصول للمنصب بالقوة ، والقبول به هو من باب ارتكاب أخف الضررين ، مع أنه محرم أحيانا ، لأنه غالبا ما يؤدي إلى فتنة وقطيعة وظلم يحل بالبلاد.
الخلاصة 4
أن الاستيلاء على المنصب بالقوة وإن كان الفقهاء لا يفضلونه لكنه أحد الطرق المقررة عندهم ، والقبول بهذا الأسلوب هو من باب القبول بالأمر الواقع غير المرغوب فيه ؛ وإذا تولى منصبه فإن طاعته واجبة ، ولا يشترط فيه ما يشترط في من يتولى بالبيعة ، ولا موافقة أهل الحل والعقد ، والإقدام على تولي المنصب بالقوة محرم من حيث المبدإ ما لم يكن الحاكم السابق يبيح للناس فعل بعض المحرمات ، فحينها تكون الإطاحة به واجبة عند البعض ، وإن ارتد ردة صريحة فإنه يعزل فور توليه ، أو فور ارتداده ، ولا يجوز شرعا تأخير أمر الإطاحة به ، ولو أريقت دماء ووقعت فتنة.
تعدد الحكام في العصر الواحد
الأصل أن المجتمع المسلم كله يحكمه حاكم واحد ، هذا ما عرفه التاريخ الإسلامي منذ ظهور الإسلام ؛ وبعد أن أعلن مصطفى كمال أتاتورك إنهاء الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1924 وجد المسلمون أنفسهم أمام وضع جديد ، فلا يوجد حاكم واحد يجتمعون في ظله ، بل تم تقسيم الأراضي العربية والإسلامية من قبل المستعمر الذي سيطر على معظم الأقطار باستثناء المملكة السعودية فلم تخضع للاستعمار الأوروبي المباشر ، بموجب اتفاقية بين مندوبين عن دولتين كبريين من دول العالم آن ذاك ، مارك سايكس وزير خارجية بريطانيا ، عن بريطانيا ، وجورج بيكو وزير خارجية فرنسا ، عن فرنسا ، وتعرف باتفاقية سايكس بيكو ؛ وكانت منطقتنا قبل هذه الاتفاقية مقسمة إلى ولايات تقسيما يختلف بعض الشيء عما هو واقع اليوم ، لا سيما مناطق الشام والعراق والإمارات ووادي النيل .
وإذا كان المسلمون يريدون التقسيم بسبب ترامي أطراف العالم الإسلامي فليكن باختيارهم لا باختيار غيرهم ، مع ضرورة توحيدهم في الشأن الاقتصادي ، وأيضا : إلغاء ما يعرقل التواصل بين المسلمين في تنقلهم بين الأقطار.
إن الذي توصي به تعاليم الإسلام أن يعيش المسلمون أقوياء ، لهم الهيبة والمكانة الرفيعة بين دول العالم وأممه ، وهذا يقتضي أن يحكمهم حاكم واحد ، وهو ما صرح به بعض الفقهاء ، جاء في غيّاث الأمم تحت عنوان ( منع نصب إمامين ) ما يلي : " إذا تيسر نصب إمام واحد يطبق خطة الإسلام ، ويشمل الخليفة على تفاوت مراتبها في مشارق الأرض ومغاربها أثرُه ، تعيّن نصبُه ، ولم يسع والحالة هذه نصب إمامين ، وهذا متفق عليه لا يُلفىَ فيه خلاف " فحين يمكن نصب حاكم واحد للمسلمين لا خلاف في حرمة وجود حاكم آخر.
وذكر النووي في روضة الطالبين وعمدة المفتين أن في المسألة رأيين : المنع منه مطلقا ، وجوازه أحيانا ، فعن الأول قال : " لا يجوز نصب إمامين في وقت واحد ، وإن تباعد إقليماهما "وعن الثاني قال : " وقال الأستاذ أبو إسحاق يجوز نصب إمامين في إقليمين ، لأنه قد يحتاج إليه ، وهذا اختيار الإمام ".
وذهب آخرون إلى أنه إذا كانت أطراف الدولة الإسلامية متباعدة ، يصعب على حاكم واحد السيطرة عليها كلها كما هو الحال في عصرنا هذا جاز التعدد ؛ وقال عنه القاضي عياض في الإكمال : " العقد لإمامين في عقد واحد لا يجوز ، وقد أْشار بعض المتأخرين من أهل الأصول أن ديار المسلمين إذا اتسعت وتباعدت ، وكان بعض الأطراف لا يصل إليه خبر الإمام ولا تدبيره حتى يضطروا إلى إقامة إمام يدبرهم ، فإن ذلك يسوغ لهم " ؛ وهذا أقرب للصواب ، فيمكن تعدد ولاة الأمر نظرا لتباعد أطراف الأقطار الإسلامية ، وصعوبة جمعهم كلهم في دولة واحدة.
وثمة أمور مهمة يجب العلم بها ، فعند التعدد يجب الحرص على أمرين ، أحدهما سياسي والآخر اقتصادي ، فأما السياسي فإن التقسيم وإقامة عدة دول متميزة عن بعضها فهي بمنزلة أقاليم متعددة لدولة واحدة ، وليست دولا منفصلة ، فلا يجوز أن تتصادم سياساتها أو أن تقتتل فيما بينها ، فهذا محرم شرعا ، جاء في خطبة رسول الله عليه الصلاة والسلام عام حجة الوداع : " فإن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، بينكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ليبلغ الشاهد الغائب " رواه البخاري ؛ وأسوأ منه أن تستعين في صراعاتها بغير المسلمين ، فالواجب على كل الكيانات السياسية أن تتعامل مع غيرها على أساس التعاون والتكامل ، لا على التقاطع ، وفقا لما جاء في المفهم للقرطبي ، وهو : " سنة المسلمين وشريعتهم : التواصل والتراحم لا التقاطع والتقاتل " أي أن طريقة المسلمين وما توصي به شريعتهم هو التواصل والتراحم بينهم لا التقاطع والتقاتل ؛ فما نشهده من صدام سياسي يصل إلى حد إلى الاقتتال بين مختلف كياناتنا السياسية هو أمر محرم من الكبائر ، ولا يغني عنهم أي تأويل يتأولونه ، أو ذريعة يتذرعون بها ، فالاقتتال محرم ، وما أدى إليه من سياسات تصادمية تتبناها بعض الدول هو محرم ، يحمل وزره سياسيو وفقهاء تلك الدول ، والإسلام يوجب على أتباعه أن يحيوا أقوياء واتباع السبل الكفيلة بتحقيق ذلك الهدف النبيل ، وهذا لا يتأتى إلا باندماج كثير من الأقطار مع بعضها ؛ ومما يجب العلم به في الشأن السياسي إضافة لما تقدم : تسهيل التواصل ، ورفع الحواجز.
وأما عن الشأن الاقتصادي : فلو سلمنا بأنه من المفيد للمسلمين تعدد حكامهم فيجب أن يكون اقتصادهم بمنزلة اقتصاد دولة واحدة ، إذ من المحرم شرعا أن توجد مجتمعات مسلمة غنية وأخرى فقيرة ، وواجب على الدول الثرية تحويل جزء من دخلها إلى المجتمعات الفقيرة ، وهو حقهم في مال الله الذي يستخرج ، فحق المسلمين متساو فيما يؤتيه الله بعضهم من ثروات النفط والغاز وغيرهما ، وهذا الأمر كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحلف عليه ، ففي مسند الإمام أحمد : " عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : كان عمر يحلف على أيمان ثلاث ، يقول : والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد ، وما أنا بأحق به من أحد ، والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب ، إلا عبدا مملوكا ، ولكنا على منازلنا من كتاب الله تعالى ، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجل وبلاؤه في الإسلام ، والرجل وقدمه في الإسلام ، والرجل وغناؤه في الإسلام ، والرجل وحاجته ، ووالله لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال ، وهو يرعى مكانه " !!.
هذا عمر يقسم وهو في المدينة أن لكل مسلم الحق في مال المسلمين ، وأنه سيرسل لمن يرعى غنمه بصنعاء في اليمن نصيبه من ذلك المال ، والدول اليوم تمنعهم منه.
وفي عصرنا هذا كان القذافي يعطي بعض المسلمين الأفارقة الكثير من دخل ليبيا ، حتى إن الليبيين ينقمون عليه أنه يبدد ثروتهم على غيرهم ، مع أن هذا يتفق مع المبدإ المقرر من عمر بن الخطاب ، كما أن أحزاب الإخوان المسلمين في مصر وليبيا وتونس أرادت تكرار الأمر نفسه ، فتسبب في نفور عدد من الليبيين عن هذا الحزب في بلادهم ؛ ولو طبقوه وتم توزيع دخل ليبيا على غير الليبيين فذلك جائز ، ولو حبسوه وقصروه عليهم وحدهم لأنه نفط وغاز بلادهم فقد خالفوا ما عليه السلف وتعاليم ديننا ، واتبعوا آراء المفكرين المعاصرين غير المسلمين.
ومنع الدول وارداتها عن بقية المسلمين أمر محرم ، وفيه معجزة نبوية ، روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " منعت العراق درهمها وقفيزها ، ومنعت الشام مديها ودينارها ، ومنعت مصر إردبها ودينارها ، وعدتم من حيث بدأتم ، وعدتم من حيث بدأتم ، وعدتم من حيث بدأتم " شهد على ذلك لحم أبى هريرة ودمه.
فما تتبناه بعض الدول العربية من منع دخلها عن بقية المسلمين ، ورفع مستوى معيشة أبنائها هو منع لأولئك المسلمين من حقهم في تلك الثروات ، وما يقولونه من أن عائداتهم تلك هي لشعوبهم دون غيرها من المسلمين خطأ شرعا ، بهذا فسره النووي فقال : " وفى معنى منعت العراق وغيرها قولان مشهوران ، أحدهما : لإسلامهم ، فتسقط عنهم الجزية ، وهذا قد وجد ؛ والثاني وهو الأشهر : أن معناه أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان ، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين " وهذا أمر واقع اليوم ، فنحن في آخر الزمان ، واستولى العجم والروم على ثرواتنا عن طريق الشركات ، فمنعت الدول الغنية خيراتها عن إخوتها في دين الله.
ويؤكد هذا ما جاء في دراسة قامت بها مؤسسة 12 x المالية بالتعاون مع بنك U.B.S ، إذ اتضح أن عدد الملياديرات في الشرق الأوسط عام 2013 بلغ 167 مليارديرا ، عددهم في السعودية 104 مليارديرا ، بثروة تقدر ب : 203 مليار دولار ، ثم الإمارات بعدد 37 مليارديرا ، بثروة تقدر ب : 45 مليار دولار ، ثم الكويت بعدد 17 مليارديرا ، بثروة قدرها 34 مليار دولار ، ثم قطر بعدد 9 ملياردير بثروة قدرها 20 مليارا دولار ؛ في حين يحيا ملايين المسلمين حياة العوز والفاقة والحرمان ، أليس من المفارقات أن أكثر الفقراء في العالم اليوم هم من المسلمين ، وأن أكثر الموارد الاقتصادية في العالم من نفظ وغاز وذهب وغيرها هي في بلاد المسلمين ؟!.
إن الواجب ( والله أعلم ) إنشاء بيت مال للمسلمين كلهم كصندوق نقد ، يسيّره مندوبون عن كافة الدول الإسلامية ، بعد إحداث تغيير في الكيانات السياسية القزمية القائمة اليوم ، ليتدارسوا احتياجات المسلمين وإمكانياتهم المالية ، وكيفية إنفاقها على مختلف مجتمعاتهم.
وهذا أمر يجب على العلماء أن يبينوه للمسئولين في مختلف الدول ، فإن لم يتيسر إنشاء الصندوق فمن حق الشعوب المسلمة الفقيرة التظاهر أمام سفارات الدول الثرية مطالبين بحقهم في ما تبدده تلك الدول من ثروات لرفع مستوى معيشة أبنائها في الوقت الذي تعيش فيه عدة مجتمعات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم عيشة فقر مدقع.
الخلاصة 5
أن تعدد حكام المسلمين مرفوض ، ولكن عمت به البلوى ، واحتاج المسلمون عامة له ، ويجب على الحكام أمور ، أحدهما : عدم تبني أساليب التصادم بينهم ، ثانيا : تسهيل التواصل بين مناطق المسلمين ، ثالثا : رسم طريقة تؤدي لتوصيل حق كل مسلم له من الثروات ، ورفض استئثار كل قطر بثروته , فيجب توزيع الثروة على جميع المسلمين ، بما لا يبقي تفاوتا في مستوى المعيشة بينهم ، بما يحدده خبراء الاقتصاد.
واجبات الحاكم في الإسلام
إن الحكومة اليوم تأخذ ما كان لولي الأمر من معظم الحقوق والأحكام ، والشرع أمر بالسمع والطاعة لولي الأمر ، ولأية حكومة ، وقد أو جب عليها أن تعامل الرعية بما يجعلهم يشعرون بالكرامة ، لكي تتوطد العلاقة بينها وبينهم ، فعليها أن تكون تشريعاتها منطلقة من جلب المصالح لهم ودفع الضر عنهم ، هذا ما صرحت به القواعد الفقهية كقاعدة : " تَصَرّفُ الإمام على الرعية منوط بالمصلحة " وجاء عن هذا في كتاب الذخيرة : " كل مَن وَلِيَ ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية لا يحل له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة أو درء مفسدة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : من وَلِيَ من أمور أمتي شيئا ثم لم يجهد لهم ولم ينصح ، فالجنة عليه حرام " .
فإذا أصدرت قرارات فيها مشقة على الناس فكل من له دور في إصدار ذلك القرار فهو عاص لله عز وجل ، فعن عبد الرحمن بن شماسة أنه قال : أتيت عائشة أسألها عن شيء ، فقالت ممن أنت ؟ فقلت : رجل من أهل مصر ، فقالت : كيف كان صاحبكم لكم في غزوتكم هذه ؟ فقلت : ما نقمْنا منه شيئا ، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير ، والعبد فيعطيه العبد ، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة ، فقالت : أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبى بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا : " اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولى من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به " هذا ما يجب على أعضاء كل حكومة أن يعلموه ؛ روي عن الحسن أن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه ، فقال له معقل : إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة " فإن خالفت ، فلا يجوز إسقاطها لأنها أدخلت المشقة عليهم أو سارت فيهم سيرة سيئة ، بل هناك حلول أخرى سيأتي الحديث عنها.
الخلاصة 6
أن الحكومة يجب عليها أن تقوم بما يصلح حال الناس ، وأن لا تكون شاقة في تعاملها معهم ، بل ترفق بهم وتنصح لهم بقدر المستطاع ، فإن لم تفعل هذا وكانت شاقة عليهم في قراراتها ، وضَيّقت عليهم تضييقا بالغا ، فلهم أن يرفعوا أمرها إلى الجهة الأعلى منها ، سواء الرئيس ، أو الملك ، أو الأمير ، أو البرلمان ؛ وهؤلاء من غير المقبول تحميلهم مسؤولية ما في أي بلد من قرارات مجحفة بالناس في أي شأن من الشؤون ، فهناك جهات مسؤولة عن كل مجال من مجالات الحياة في كل مجتمع من مجتمعات الدولة الحديثة.
ودور هؤلاء قد يبدو في شكل إيعاز من أحدهم للبرلمان ، بتقرير كذا وكذا ، وهذا شرعا من حقه فهو الراعي المسؤول عن رعيته أمام ربه سبحانه وتعالى ، وكلام العلماء ينص على أنه إن ظنوا أنه حين يضيق عليهم يمكن عزله دون أن يتسببوا في فتنة واقتتال بين المسلمين فلهم ذلك ، وإن ظنوا أن العزل ليس بالأمر الهين ، وأنه سيسفر عن ضحايا وفتن وتفكك في علاقاتهم فعليهم الصبر ليس إلا ، إنه يحرم على المسلمين الشروع في أي عمل يؤدي إلى القطيعة والتفكك والاقتتال ، وستأتي نصوص العلماء في هذا ؛ ولا يتحمل المسئولون ما ينتج عن ذلك من فتن وضحايا ، فلم يرد في الشرع إذنٌ بخلع الحاكم إذا لم يرفق بالمسلمين ولم ينصح لهم ، أو كان شاقّا عليهم ، أو كان سيء الطباع ، أو فشل في إدارة الدولة أو .... إلا إذا أمنوا الفتنة ، فمن راموا عزله لما ذكر مع احتمال الفتنة فهم وحدهم المسئولون عن التبعات ، هذا ما صرح به بعض العلماء ، وسيأتي في موضعه ؛ والحكومة والبرلمان إذا أدخلوا مشقة على الناس فالواجب نصحهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، أما الإطاحة بهم فلا ، لأن المطلوب شرعا تحسين الأوضاع ، ومنع الظلم ، ولا تلازم بين هذا وبين التداول على السلطة ، وستأتي مواقف بعض الصحابة في مثل هذه المواقف.
طاعة الحاكم متى تجب ومتى تحرم ؟
أولا : متى تجب الطاعة
الحاكم المسلم في ظل الدولة الحديثة يختلف عنه إبان حكم الأمويين والعباسيين والعثمانيين ، إنه الآن شرعا يناط به الإشراف على عمل الجهات التشريعية والتنفيذية والقضائية ( الحكومة ) فهو راع ومسئول عن رعيته أما الله يوم القيامة ، ولذا فمن حقه أن يأمر بما يريد ، وينهى عما يريد ، فهو المحاسب أولا وآخرا عن الناس جميعا وهنا خطأ وقع فيه علماء خصوم الحكام يتمثل في أن المجتمعات اليوم محكومة بحكومات لا بحاكم منفرد ، فتجاهل العلماء الوزارات ورؤساءها ، والهيئات ومؤسساتها ، وحمّلوا ثقل أخطاء العاملين فيها لمن هو في أعلى هرم السلطة.
إن الأمور تسير في الدولة الحديثة من خلال ما تصدره الحكومة من قوانين وقرارات ، وكل منهما لا علاقة لها للحاكم الأعلى ( ولي الأمر ) بل هناك وزراء تنفيذيون وبرلمانيون مشرعون هم الذين يعنيهم الأمر ، وكل من يريدون الاحتجاج على السياسة الداخلية فعليهم التوجه باحتجاجاتهم لمن يعنيهم ذلك الأمر فقط لا إلى غيرهم ، فإن لم يستجيبوا لهم فليذهبوا لمن هو أعلى منهم درجة حتى يصلوا لأعلى المراتب ، وهذا كله مباح ، فهو إما من باب المراجعة للحاكم ، أو من باب الاعتراض عليه ، وسيأتي الحديث عليهما ، وكيفية علاجه.
في حال وصل الحاكم ( رئيسا كان أو ملكا أو سلطانا أو غير ذلك من الأسماء ) إلى المنصب بأية طريقة من الطرق المتقدمة ، فسيشكل حكومة لإدارة ذلك البلد ، ويثبت لها حق السمع والطاعة على من هم داخل حدود قطرها الذي تديره ، فمتى تجب طاعتها ومتى تحرم ؟ الجواب أن طاعتها واجبة إذا أمرتهم بشيء أباحت الشريعة فعله وتركه ، سواء ورد دليل على أنه حلال ، أو كان مسكوتا عنه ، فإذا أمرت به وجب عليهم فعله كما لو أمر بها الدين ، وإذا نهت عن شيء وجب عليهم تركه كما لو نهى عنه الدين.
وضمن حق الحكومة في إدارة الدولة فإن لها حق تنظيم الشؤون الداخلية والخارجية فيها ، سواء كانت حاجة الناس لها يومية مثل تنظيم حركة المرور ، أو لا كاستخراج وثائق ثبوتية للبالغين ونحو ذلك من القوانين والقرارات ، وإذا أمرت بشيء أو منعت منه فالواجب اتباعها في كل ذلك ، ويتغير الحكم تلقائيا من مباح إلى واجب أو محرم وإن كان مباحا في أصله ، بهذا توصي تعاليم ديننا ، فقد قال الرسول عن الطاعة : " إنما الطاعة في المعروف " والمعروف الذي يجب على الناس طاعة الحكومة فيه يشمل الفرائض والسنن ، والأمور المباحة ، وكل ما لم يدل دليل على حرمته ؛ وقد تناول الفقهاء هذا الجانب ، يقول أحمد القرطبي في المفهم : " ويعنى بالمعروف هنا : ما ليس بمنكر ولا معصية ، فتدخل فيه الطاعات الواجبة والمندوب إليها ، والأمور الجائزة شرعًا ، فلو أمر بجائزِ لصارت طاعته فيه واجبة ، ولما حَلَّتْ مخالفتُه " .
فقد نص على أن طاعة الحاكم ( أي الحكومة ) واجبة في الأمور المباحة ، فلو أمرتهم بفعل شيء مباح شرعا فإن طاعتها وامتثال أمرها ذلك لازم لهم ، ويبقى ذلك الأمر مباحا لغيرهم ؛ ووجوب الطاعة في المباح واجب ، سواء أحبه الناس أم كرهوه .
والأمر بما هو محرم إذا كان موجها لفرد مسلم يعلم أنه لو لم يفعله سيتضرر في نفسه ، أو عرضه ، أو ماله ، فله أن يفعله ، ولا لوم عليه شرعا ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " ومعلوم أن شرط التكليف الاختيار ، وأن الإكراه مسقط له ؛ أما إذا كان موجها للناس كلهم فلا يجوز فعله ، وسيأتي أن أحد الصحابة غضب على من معه فأمرهم بمحرم ، فعصوه ، وكان رد الرسول عليه الصلاة والسلام أنهم لو أطاعوه وفعلوا ذلك المحرم سيدخلون النار.
وبما أن للحكومة حق الطاعة في المباح ، فحين تأمر بفريضة من فرائض الإسلام لزمهم فعلها ، تأكيدا للأمر الشرعي ، وحين تأمرهم بمباح يجب عليهم فعله ، تأكيدا لحقها عليهم كحكومة لهم ، فمجال عملها الأمور التنظيمية للمجتمعات ، مما لا تشمله الأحكام التكليفية الأربعة المعروفة ، إضافة إلى الإشراف على تطبيق تلك الأحكام.
فما فرضه الله علينا من فرائض فمهمة الحاكم فيها إلزام الناس بها ، وما نهى عنه مما له عقوبة منصوص عليها ( جرائم الحدود ) فواجب على الحاكم ( ممثلا في الجهة المعنية ) هو إقامة تلك الحدود ، وما لم ترد به عقوبة محددة فيجب على الحاكم ( ممثلا في الجهة المعنية ) وضع عقوبة رادعة يعاقب بها المخالف المفسد ، وللحاكم ( ومن ناب عنه ) فيما عدى الأوامر والنواهي مجال فسيح في تنظيم أمور مجتمعهم وفق رؤيته ، سواء أحبّها الناس أم كرهوها ، ولهم الحق في مراجعته ، والاعتراض عليه فيها بطريقة مخالفة للمألوف اليوم ، وسيأتي.
وإذ أوجب الدين على المسلمين طاعة الحكومة ومن يمثلها ، فإنه أعطاهم بديلا يحقق لهم هدفهم ، ومنعهم من أي تحرك لإسقاطها إذا أمرت بما يرونه ضارا بهم ، وذلك بمطالبتها بوقف العمل به مرة بعد مرة ، أو بالمطالبة بإصلاحات في أي شأن من شؤونهم اليومية كما سيأتي.
كما أعطاهم حق المراجعة في الأمور التي لم يأت دليل بخصوصها ، ومن خلالها قد يتغير القرار وقد يغير المعترضون رأيهم ، إن هذين كليهما يحققان نفس هدف المتظاهرين الحريصين على المصلحة ، وأعطاهم أيضا حق الاعتراض حين تخالف تشريعاتها نصوص الشريعة ، وقد فعله بعض الصحابة ، أما تغيير الحكومة بالقوة فمن باب المنازعة في الحكم ، وهو محرم ، كما سيأتي.
وسواء كان المباح الذي أمْرت به من شؤون الاقتصاد ، أو السياسة ، أو الصحة ، أو الشأن العسكري أو الأمني ، أو غير ذلك ، فإن طاعتها واجبة في جميع ما ذكر ، وهي تندرج تحت مبدإ الطاعة في المعروف ، الثابت في نصوص شرعية.
وقد يعترض البعض على هذا ، من منطلق أن الإنسان حر في فعل ما يريده سواء منعت منه الحكومة أم لا ؛ وفي عدم فعل ما لا يريده سواء أمرت به أم لا ؛ وهذا كلام ينطوي على تعسف ، ما دورها إن لم يكن أمرها ونهيها واجب الاتباع ؟ إن لها ( وهي تدير شؤون المجتمع ) أن تأمر من تحكمهم بأشياء وتمنعهم من أخرى ويكون لزاما على الناس الانقياد لها فيهما.
وهذا الرأي مخالف لما جاء في الحديث الصحيح بأن من يعصي الأمير فيما يأمر به أو ينهى عنه هو عاص في نظر الشرع ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصى أميري فقد عصاني " وليس هذا خاصا بمن اختاره الرسول عليه الصلاة والسلام أميرا ، بل يشمل غيره ، فالعبرة بكونه أميرا لا بمن أمّرَه.
والأدلة الآمرة بطاعة الحكومة عامة في كل أمير وفي أي عصر ، لماذا جاء الأمر في الكتاب والسنة بطاعتها إذا لم يكن لها الحق في إصدار قوانين تأمر الناس بأشياء وأخرى تمنعهم من أشياء ويجب عليهم الالتزام بها ؟ !! فإذا : تجب طاعتها فيما أمر به الدين الإسلامي وفيما لم يأمر به ، ولها أن تمنع مما نهى عنه الدين ومما لم ينه عنه ، سواء ظن الناس أن لهم فعلها وتركها أو لم يظنوا ذلك ، فإذا خالفوها في أي منهما فهم عصاة ، ولو أرادوا إجبارها على تغيير قراراتها فهم عصاة كذلك ، وكيف يقبل عاقل إجبارها على تغيير قراراتها وهي المسؤولة أمام الله عنها ؟! روى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كلكم راع ومسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها ، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته " قال : فسمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والرجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته ، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " فكل حكومة مسؤولة عن رعيتها.
أما التنصل من ذلك بذريعة ما يسمى اليوم الحريات العامة فمن لغو الكلام ومخالف لتعاليم الإسلام ؛ وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " والحساب يوم القيامة على ضوء هذا الحديث.
وفي إطار مسألة الحريات العامة نحن المسلمين ينبغي أن لا ننظر إلى الحياة من نفس الزاوية التي ينظر منها غيرنا من الغربيين والشرقيين ، فهم قوم لا يؤمنون بيوم الحساب بخلافنا نحن ، لذا فلهم أن يحاسبوا مسئوليهم في هذه الحياة ، لأن حكوماتهم مسؤولة أمام برلماناتهم ، أما نحن فيوم الحساب الذي نؤمن به : يوم القيامة ، وليس اليوم ، والذي يحاسبها هو الله وليس البرلمان ، وعليه فلا يجوز استعمال القوة للوصول لهذا المستوى من التعامل بين الطرفين ، ولا بأس به عند الاتفاق عليه.
على المسلمين أن يربطوا بين طاعتهم للحكومة وبين اتباعها لتعاليم الإسلام ، فإن خالفت نصوص الشريعة فهناك طرق محددة يجب اتباعها لتلافي هذا الخلل ، وعلى من يشيرون عليها تنبيهها لمخالفاتها تلك النصوص ، فإن أصرت على عدم الطاعة فلهم الاعتراض عليها علنا ، وقد فعله عدد من الصحابة ، أما إسقاطها بالقوة فلا ، لما سيقع من فتن ، ولأنها راعية ومسؤولة عن رعيتها.
وهذا أمر يسري على من هم في منصب أعلى مراكز السلطة من الوزراء ورئيس الوزراء ، فللناس مراجعتهم في قراراتهم ، والاعتراض أحيانا ، ومن هو أعلى سلطة فعليه أن يأمر بما فيه مصلحتهم ، فإن أمر بضده فليراجعوه فقط ، ولا يجوز لهم أن يعزلوه بالقوة ، ولا يجوز استعمالها في التعامل بين المسلمين ، لأنها قد تسفر عن ظلم وفتن وقطيعة ، كما لا يجوز السكوت على الأخطاء حتى تتراكم ثم الطلب من الناس إسقاطها بالقوة ، فمن طلب هذا ، ومن امتثل وشارك فيه كلهم عصاة شرعا.
الخلاصة 7
أن الطاعة تجب في ثلاثة أمور ، أولها الفرائض الشرعية ، ثانيها : السنن المعروفة ، ثالثها : الأمور المباحة ، ولها أن تعاقب من يخالف أي أمر من أوامرها فيما ذكر بما تراه رادعا للمخالفين ، وهم عصاة في نظر الشرع ، بمقتضى قول الرسول : " فيما أحب وكره " فإن رغبوا في تغيير بعض القرارات فلهم أن يطالبوا بتغييرها وتبيين عيوبها ، وأن يبينوا بصورة مباشرة أو غير مباشرة مزايا رؤيتهم التي يرونها.
ثانيا : متى تحرم طاعته ؟
الحاكم اليوم ممثلا في حكومة يتم تنصيبها واختيار أعضائها بطرق متعدد ، فمتى تحرم طاعتها ؟ تحرم إذا خالفت تعاليم الإسلام ، فأمرت بما هو محرم ، كضرب الناس ظلما ، أو غصب أموالهم ظلما ، أو تهجيرهم قسرا ؛ كذلك لو منعتهم من فريضة من الفرائض المتفق عليها ، كالصلاة والصيام والحج ، أما ما فيه اختلاف فلا ، ولا يجوز إسقاطها لأنها أمرت بمحرم أو منعت من فريضة ، بل هناك حلولا شرعية لما ذكر وستأتي بيانها في موضعها. وقد وقع الأمر بما هو محرم شرعا من صحابي جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميرا على عدد من الصحابة في إحدى السرايا ، فعن علي رضي الله عنه قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية ، فاستعمل عليها رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه ، فغضب فقال : أليس أمركم النبي أن تطيعوني ؟ قالوا : بلى ، قال : فاجمعوا لي حطبا ، فجمعوا ، فقال : أوقدوا نارا ، فأوقدوها ، فقال : ادخلوها ، فهَمّوا ، وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون : فرَرْنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار ، فما زالوا حتى خمدت النار ، فسكن غضبه ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة ، الطاعة في المعروف " فهذا الصحابي أمر من معه باقتحام النار ، وهذا بمثابة أمرهم بالانتحار بصورة جماعية ، وهو محرم قولا واحدا ، فلم يحكم الرسول عليه الصلاة والسلام بعصيانهم حين لم يمتثلوا أمره ، بل نهى عنه ، وعليه فالحكومة حين تأمر بمعصية فطاعتها في تلك المعصية حرام.
الخلاصة 8
أن الطاعة في المحرم حرام وفي الواجب والمباح واجبة ، وفي النهي عن فريضة متفق عليها حرام ، وعن المباح واجبة ، سواء رضي الناس بأوامرها أو لم يرضوا.
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا
تقدم أم ديننا يأمرنا بطاعة من يحكمنا ، سواء أمرنا بفريضة شرعية أو بما هو مباح لم يأت به أمر ولا نهي ، وهو حين يقرر قرارات قد يكون فيها ظلم للناس أو بعضهم ، فعليهم طاعته ولهم مراجعته ، وهنا يجب التذكير بأن طاعته واجبة في هذا أيضا ، مع الإذن بمواجهته بذلك ، دون العمل على عزله بالقوة ، ويأتي الكلام فيه مفصلا ، وحيث ثبت أن طاعته مأمور بها فقد يظن البعض أن هذا مخلف لقول الله تعالى : " وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ " فيتوهم أن الطاعة المأمور بها شرعا نوع من الركون المنهي عنه شرعا ، وربما اعتمد على ما جاء في تفسيرها عن قتادة أن معناها : " لا تودّوهم ، ولا تطيعوهم " فيفهم من قوله ( لا تطيعوهم ) حرمة طاعة الحكومة حين تظلم ، ويبني على هذا أن من يطيع الحاكم الظالم سيكون من المعذبين ، لأنه ركن إليه في الدنيا ، أما من خالفه فمن الناجين ، وهذا وهم كبير وقع من كثير من خصوم حكوماتنا ، والفهم الصحيح للآية على تأويل قتادة هذا أن المراد بالظالم من كان غير حاكم ، لأن الدين لم يأمرنا بطاعته ، أما من كان ظالما من حكامنا فقد أمرنا الدين بطاعته ولو ظلمنا ، ولا يخفى أن أكثر من يرددون هذا الكلام غير صادق في تمسكه بالآية ، فالدافع الحقيقي له ليس الحرص على التزام تعاليم الإسلام ، بل رغبة جامحة في مخالفة أنظمتنا.
والضرورة تدعو لبيان الفرق بين الطاعة المأمور بها شرعا وبين الركون المنهي عنه شرعا ، وبيانه أن الطاعة تكون بفعل ما أمرتنا به حكوماتنا الظالمة ، لأننا مأمورون بالسمع والطاعة ، فنقول سمعا وطاعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام ، إننا نقبل أمره صلى الله عليه وسلم في هذا على الرحب والسعة كأي أمر آخر ، ولا نرتاب في أننا سنثاب على امتثال أمره بطاعتهم ولو كنا كارهين.
أما الركون فهو أمر أبعد من مجرد الامتثال الظاهري ، بل يتعداه إلى الميل بقلوبنا لما تقره من قرارات ظالمة ، فنشد من أزرها ، ونعضد موقفها ، وندافع عنها بكل قوة ، فالركون ميل بالقلب ، وليس مجرد فعل ظاهر ، وقد جاء في تفسير القرطبي للآية عن ابن جريج لمعنى لا تركنوا إلى الذين ظلموا أنه قال : " لا تميلوا إليهم " وعن أبي العالية : " لا ترضوا أعمالهم " وهذان التأويلان أوضح في شمول طاعة الظالم مطلقا حاكما كان أو غير حاكم ، وهما أولى بالاتباع ممن فهم منها مجرد الطاعة للظالم ولو كان غير حاكم ، ويجب تخصيص تفسير قتادة بالظالم غير الحاكم فقط.
مخالفة الحكومة حين تمنع من ضرورات المجتمع المعاصر
بما أن الرسول أوجب على المسلم السمع والطاعة للحكومة ، فهل هذا يشمل المنع ما يعتبره اليوم كثير من المثقفين والمفكرين من ضرورات المجتمع ؟ كحرية التعبير ، وتكوين الأحزاب ، والتداول على السلطة ، والتظاهر ، و.......
الجواب : أنه يتعين تصنيف حكم هذه الأشياء وغيرها شرعا ، هل هي فريضة شرعية على المسلم ؟ الجواب : لا ، وإذا : فهي من المباحات ، وحيث كانت كذلك فيجوز لها شرعا منعنا منها ، وواجب علينا طاعتها ، فإن أصر البعض على مخالفتها فهم عصاة مخالفون للأمر بالطاعة في غير المعصية ، وإن أمكن مراجعتها للوصول إلى توافق على ما ذكر فلا مانع منه شرعا ، لأنها ليست مما حرمه الله.
والمحاسبة الدقيقة حق للمسلمين على الحكومة ، دون إسقاطها بالقوة إن لم نتمكن من القيام بعملها على الوجه المطلوب ، ويجب ملاحظة أن لكل دولة أسرارا لا يجوز نشرها ، ويجب اتخاذ احتياطات مبالغ فيها عند محاسبتها ، ولو امتنعت من المحاسبة فلهم عزلها دون إراقة دماء وفتنة ، ويحرم مع احتمال وقوعهما.
وضرورات العصر أمور وصل إليها الفكر الإنساني السياسي الحديث ، وللحكومة أن تمنع منها كلها أو بعضها ، ومن كان من المثقفين المسلمين ذا رغبة في تطبيقها في بلاده فيجب عليه اتباع الطرق السلمية للوصول إليها والتوافق عليها ، دون استعمال القوة لتحقيق ذلك ، لأنها مباحة ، وليست من فرائض الإسلام ، نعم ، إن هذه وإن كانت الآن من ضرورات أي مجتمع حسب رؤية البعض ، فإن الإسلام لا يقرّ فرضها على أية حكومة بالقوة ، فليس من شأن المؤمنين التعامل فيما بينهم بالقوة ، بل بالحوار.
وإذا : فإنّ الإقدام على ما ذكر من التظاهر والتداول على السلطة وغير ذلك ، يختلف حكمه باختلاف موقف الحكومات منه ، فإن منعت منها وأراد الناس فعلها قسرا فكل من يدعو لها ومن يجيب دعوته آثمان ، لا من حيث إن هذه الأشياء محرمة شرعا ، بل لأن الحكومة منعت منها ، وهي مباحة شرعا ، ومخالفتها في المباح لا تجوز ، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن متعتي النكاح والحج فتركهما المسلمون لأنهما ليستا فرضا على المسلمين ، فلذا كان تركهما واجبا ، فعن أبى نضرة قال : كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال : إن ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : " فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهانا عنهما عمر ، فلم نعد لهما " .
فقوله : " ثم نهانا عنهما عمر ، فلم نعُدْ لهما " صريح في عدم فعلهم إياهما بعد أن كانوا يفعلون كلا منهما لأن الدين لا يحرمهما ، والذي جعلهم يتركونهما أنهما ليستا من الفرائض الشرعية من جانب ، وأن ولي الأمر رآى بصفته حاكما : المنع منهما من جانب آخر ، وطاعته واجبة في المباح يحرم على الناس مخالفته فيه.
إن كل مؤمن عاقل يدرك أنه سيحاسب يوم القيامة على أعماله ، بما في ذلك السمع والطاعة لمن يحكمه ، فما كان من عمله متفقا مع هدي الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو مقبول عند الله إذا خلصت النية من الرياء ، وما خالفهما فهو غير مقبول ، ولو كان صاحبه يراه يمثل تطورا هائلا للمسلمين ومفيدا لهم أيما فائدة ، فالله يقول : " وَأنّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ".
ولا ريب أن الأفكار المعاصرة بعضها متفق مع تعاليم الإسلام ، وللحكومة الحق في قبولها أو رفضها ؛ وبعضها مخالف لها يجب رفضها ؛ ومما يدعو للأسف أن البعض بذل نفسه فداء لتطبيق هذه الأفكار ، كما لو كانت ركيزة من ركائز هذا الدين ، وهذا من سفاهة الرأي وطيش الفكر ، إنها مباحة لا ثواب على العمل لتحقيقها ، بل ولا على فعلها بعد الحصول عليها ، وللحكومة المنع منها ومخالفتها في ذلك محرمة ، فلا مزية لها يوم القيامة ، وعلى المسلم فعل ما فرضه الله ، ومنه طاعة الحكومة في الأمر بغير المحرم والنهي عنه.
ولو نهت أحد الأفراد عن فرض من الفرائض ، وعلم أنه لو خالفها وفعله سيلحقه ضرر في جسمه ، أو عرضه ، أو ماله ، فقد سقط عنه التكليف به ، أما لو نهت الناس كلهم عن فريضة فالواجب عصيانها وفعل الفريضة ، فترك ما فرضه الله أمر منكر ، والطاعة في المعروف فقط لا في المنكر ؛ أما لو نهتهم كلهم عن مباح فلا يجوز لهم فعله ، هكذا كان الصحابة يفعلون ، وتقدم حديث جابر في أمر المتعتين حتى نهى عنهما عمر بن الخطاب ؛ وكمثال على وضع هذا المبدإ موضع التطبيق من كلام علمائنا نجد أن عقد الإجارة المبرم بين صاحب المحل وبين المستأجر يفسخ إذا أمر الحاكم بإغلاق المحال التجارية ، ونهى عن البيع والشراء فيها ، لأن مخالفته فيما نهى عنه لا تجوز ، ففي بعض شروح مختصر خليل : " وفسخ كراء الحوانيت بسبب أمر السلطان بإغلاق الحوانيت ، لعدم إمكان مخالفة أمره " فمن القواعد الأصولية المتفق عليها أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، فلذلك تفسخ الأكرية إذا منع الحاكم من فتح المحال المكتراة ، مع أن الكراء مباح ؛ وقد نصّوا على تعويض أربابها على الأضرار التي ستلحقهم.
إن الإسلام لا يغلق الباب على المسلمين ولا يأمرهم بالإذعان المطلق لأية حكومة ، بل يعطيهم الحق أن يراجعوها في أمرها ونهيها ، وفي أن يعترضوا عليها إذا خالفت دليلا شرعيا ، أما إسقاطها بالقوة بسبب تشريعات ظالمة ، أو استبدادية ، أو مخالفة للأدلة فمحرم إلا مع الأمن من الفتنة والظلم.
وللمسلم فعل المباح وتركه ما لم تتدخل الحكومة بالأمر به أو النهى عنه ، فإن تدَخّلت فإنه حينئذ يأخذ بعدا جديدا ، ويتحول إلى واجب أو محرم ؛ فالحكومة قد صارت إليها مهمة إدارة البلد ، ولها ممارسة عملها بالآلية التي يراها أعضاؤها مفيدة ولو خالفهم معظم الناس ، فهي شرعا مسئولة عنهم يوم القيامة أمام الله ، ولا أحد منهم سيحاسب إلا أعضاؤها فقط ، لذا يجب أن يترك لها الأمر والنهي ؛ فحين تمنع فردا أو الناس كلهم من مباح لا دليل على أنه فريضة شرعا كتعدد الأحزاب وتداول السلطة وغير ذلك ، لا يجوز لهم فعلها ، فإن أقرتها وأذنت لهم فيها فلهم فعلها.
والتظاهر السلمي مباح ما لم يكن هدف المتظاهرين إسقاطها ، وإلا فهو غير جائز ، لأنه من باب نزع اليد من الطاعة ، وهذا غير جائز قولا واحدا.
ومما تقدم يتضح أن طاعة الحكومة واجبة في كل ما هو مباح ، سواء أمرت به أو نهت عنه ، لا في الواجب أو المستحب شرعا فقط ، بل فيما هو مباح كذلك ، وإن كان الحكم الشرعي بإباحته من حيث المبدأ يظل مباحا كما كان ولا يتغير ، فلو استقالت وجاءت حكومة تريد تغييره فلها ذلك ، ويتغير الحكم بتغير قرار الحكومة ، كما كان من عمر بعد وفاة أبي بكر ، حيث قام بتغييرات ما كان يراه أبو بكر.
وهنا يجدر التذكيّر بمنزلق وقع فيه فريقان من العلماء ، فريق علماء السلاطين الذين دأبوا على دعوة الناس إلى الصبر على ظلم الحكومات ، لا مراجعة ، ولا اعتراض ؛ وفريق علماء خصومهم من السياسيين والرعاع الغوغائيين ، ممن دأبوا على دعوتهم للخروج على هذه الأنظمة الفاسدة ، لا للمطالبة بوقف الفساد ، بل لإسقاطها بالقوة المسلحة ، وإحلال نظام يسير على خطى النظم الحديثة في الدول المتقدمة ، وسيتبين خطأهما كليهما إن شاء الله في موضعه.
نحن مخلوقون لعبادة الله أولا ، ثم لتعمير الأرض بما لا يصل ليس إلى حد الاقتتال بيننا كأفراد ، وبيننا وبين الحكومات ، إنه محرم فيما بيننا وبين القوم الكافرين ، وأولى منه بيننا نحن المؤمنين ، وما ينادي به هؤلاء العلماء من إسقاط للحكومات لكي يقيموا أنظمة جديدة على النحو المذكور آنفا ، يندرج في إطار الحرص على الإمارة ، وجاء ذكره في حديث نبوي في معرض ذم أهله ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة " وحذر عليه الصلاة والسلام من التنافس على هذه الحياة بأية صورة من الصور ، فروي عن عمرو بن عوف أن رسول الله صلى الله ع