استقالته واعتزال المنصب
أسباب العزل ثلاثة في الغالب كما تقدم ، وعزله سلميا بسببها جائز وفق ضوابط معينة ، وتقدم ما يباح للناس فعله لو فعلها أو بعضا منها ، والآن فإن الحاجة تدعو لمعرفة حكم عزله من دون سبب ، بل رغبة في إنهاء حكمه ، وماذا لو طلب من الناس أن يعزلوه ؟ أيجوز ذلك أو لا يجوز ؟.
أما عن حكم طلبه منهم عزله فإن فريقا من العلماء يرى أن من يتولى ببيعة أهل الحل والعقد لا يجوز له أن يطلب منهم عزله ، فعندما اختاروه لكفاءته أضحى ملزما بتولي المنصب ، وهو فريضة عليه لا يجوز له التخلي عنها ، كأي فريضة أخرى ؛ ورآى البعض أن له طلب ذلك ، لما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قام بعدما بويع له بالخلافة ، وبايع له علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه ، قام ثلاثا ، يقول : أيها الناس : قد أقلتكم بيعتكم ، هل من كاره ؟ ( هل بايعني بعضكم مكرها على البيعة ، فأترك الخلافة من أجله ؟ ) قال : فيقوم علي في أوائل الناس فيقول : لا ، والله لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا الذي يؤخرك ؟ واستدلوا كذلك باعتزال الحسن بن علي ؛ ففي المسألة رأيان.
أما لو لم يطلب العزل فلا يجوز لهم عزله من تلقاء أنفسهم بالاتفاق ، وقد نص على هذا صاحب الإقناع فقال : " ولهم عزله إن سأل العزل لقول الصديق : أقيلوني ، أقيلوني ، وإلا حرم إجماعا " ونحوه في الإنصاف لمعرفة الراجح من الخلاف ، فقال : " وهل لهم عزله ؟ إن كان بسؤاله فحكمه حكم من عزل نفسه ، وإن كان بغير سؤاله لم يجز ، بغير خلاف " .
فإذا تجرؤوا وطلبوا منه الاستقالة فهل يجوز له أن يجيبهم ؟ قيل لا يجوز له أن يجيبهم لمطلبهم ، ولا خلع قميص الإمامة بعد أن لبسه ، لما جاء في شرح ابن بطال عن سيدنا عثمان رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام تلك الليلة التي كان فيها محاصرا في بيته والخارجون عليه يطلبون منه أن يخلع نفسه ، فقال له عليه الصلاة والسلام في منامه ذلك : " قد قمّصك الله قميصًا ، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه " يعنى الخلافة ؛ ولهذا فإنه رضي الله عنه رفض طلبهم.
وعن هذا قال الجويني في الغياث : " الإمام إذا لم يخل عن صفات الأئمة ، فرام العاقدون له عهدا أن يخلعوه لم يجدوا إلى ذلك سبيلا باتفاق الأمة ، فإنّ عَقْدَ الإمامة لازم ، لا اختيار في حَلّه من غير سبب يقتضيه ، ولا تنتظم الإمامة ، ولا تفيد الغرض المقصود منها إلا مع القطع بلزومها ، ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار ( المفاضلة ) والاختيار ، لما استتب للإمام طاعة ، ولما استمرت له قدرة واستطاعة ، ولما صح لمنصب الإمامة معنى ".
فمما تقدم من كلامه ، ومما جاء قي رؤية سيدنا عثمان رضي الله عنه في المنام يتضح انه لا يجوز لهم خلعه ، ولا يجوز له أن يوافقهم ويترك المنصب لو طلبوا منه ذلك.
وأما عن عزله لنفسه فذكر الجويني أن البعض يرى أنه لا يجوز له مطلقا ، فكما أنه لا يجوز لأهل الحل والعقد أن يخلعوه متى أرادوا ، فكذلك لا يجوز له خلع نفسه وقت ما يريد ، ومنهم من رأى له ذلك إن علم السلامة وإلا فلا ، وجاء فيه : " فأما الإمام إذا أراد أن يخلع نفسه فقد اضطربت مذاهب العلماء في ذلك ، فمنع بعضهم ذلك ، وقضى بأن الإمامة تلزم من جهة الإمام لزومها من جهة العاقدين وكافة المسلمين ، وذهب ذاهبون إلى أن الإمام له أن يخلع نفسه ، واستمسك بما صح تواترا واستفاضة من خلع الحسن بن علي نفسه ، وكان ولي عهد أبيه ، ولم يَبْدُ من أحد نكيرٌ عليه ".
ثم رجح ما يراه صوابا فقال : " والحق المتُبّع في ذلك عندي : أن الإمام لو علم أنه لو خلع نفسه لاضطربت الأمور ، وتزلزت الثغور ، وانجرّ إلى المسلمين ضرر لا قِبَل لهم به ، فلا يجوز أن يخلع نفسه ؛ وإن علم أن خلعه نفسه لا يضر المسلمين ، بل يطفئ نائرة (عداوة) ثائرة ، ويدرأ فِتنا متضافرة ، ويحقن دماء في أهُبها ، ويريح طوائف المسلمين عن نَصَبها ، فلا يمتنع أن يخلع نفسه ، وهكذا كان خلع الحسن نفسه ، وهو الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الحسن صبيا رضيعا ، فكان يمر يده على رأسه ويقول : إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله تعالى به بين فئتين عظيمتين ".
كما جاء في كتابه أن الحاكم لا يملك عزل نفسه بصورة مستقلة ، بل بالتوافق بينه وبين أهل الحل والعقد ، واستدل على ذلك بما فعله أبو بكر ، فقال : " وما روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال : أقيلوني ، فإني لست بخيركم ، دليل على أن الإمام ليس له أن يستقل بنفسه انفرادا ، واستبدادا في الخلع ، ولذلك سأل رضي الله عنه الإقالة ، فقالوا : والله ، لا نقيلك ولا نستقيلك ، وهذا محمول على ما كان الأمر عليه من ارتباط مصلحة المسلمين باستمرار الصديق على الإمامة ، وإدامة الإقامة والاستقامة عليها ، وكان لا يسد أحد في ذلك مَسَدّه ".
وعن الحديث عن الاستقالة ، وهل يفقد الحاكم منصبه تلقائيا أم لا ؟ جاء في حاشية الشرواني على تحفة المحتاج ما يلي : " وإن استعفى الخليفة أو الموصى له بعد القبول لم ينعزل حتى يُعْفَى ويُوجَدَ غيره ، فإن وُجِدَ غيرُه جاز استعفاؤه وإعفاؤه ، وخرج من العهد باستجماعهما ، وإلا امتنع ، وبقي العهد لازما " وعلى هذا فلو طلب أي حاكم من الناس إقالته ، أو أخبرهم باستقالته ، فإنه يظل في منصبه ، يتمتع بكامل صلاحيات الحكام ، ولا يسقط اعتباره حاكما حتى يتم إعفاؤه ، ويستلم غيره منه منصبه ، بعد ذلك تسقط حقوقه كحاكم ، أما قبلها فلا.
ومما تقدم من الكلام عن الاستقالة متى تجوز ومتى لا ؟ يسري على بعض أعضاء الحكومة وعليها مجتمعة ، فالوزير الذي يعلم أن استقالته ستسفر عن فتن لا يجوز له الاستقالة ، وإلا فله أن يستقيل ، وكذلك الحال بالنسبة للحكومة مجتمعة.
وأما إن أراد البعض إسقاطه أو إسقاطها بطريق متفق عليه بينهم فلهم ذلك في حال لم يقم أو لم تقم بواجبها ، وأما الإسقاط نكاية فيه أو فيها فلا ، لأنه ينم عن عبثية غير مبررة ؛ أما الإسقاط بالقوة فحرام لما فيه من إراقة الدماء لسبب دنيوي ، وفي جميع الأحوال يظل الوزير والحكومة مجتمعة لهم كافة الصلاحيات حتى يستبدلوا بغيرهم.
الخلاصة 15
أن العمل للإصلاح مع بقاء الحاكم في منصبه مشروع إذا لم يكن الحاكم فاسقا ولا جائرا ، وإذا كان للحد من الفساد والظلم فهو من باب النهي عن المنكر ، أو لتحسين الخدمات في قطاعات محددة ، فمن باب الأمر بالمعروف ، وليس لأحد عزله بسبب ذلك ؛ وأما إن كثر فسقه أو جوره ، فلهم عزله ما لم يترتب على ذلك فتنة وظلم.
إن شدة الظلم ، وكثرة الفسق ، والتخلف والفساد أمور يرفضهما الإسلام ، ويبيح عزل أي حاكم يرى الأمور تتسم بالفوضى فلا يصلحها ، ولكن حفظ دماء المسلمين وأعراضهم وممتلكاتهم أهم مما ذكر ، فإن ظنوا الفتنة والقطيعة وتفتيت اللحمة الوطنية وتفكيكها فعزله محرم ، لأن الأمر سيؤول إلى مفسدة أعظم ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ؛ والغالب في الدولة الحديثة أن الفساد وسوء الإدارة يقع من موظفين ، وبتتبع خيوط أي خلل في هذا النظام أو ذاك ففي أغلب الحالات سيتم تحديد المخل بالنظام ، فلماذا نحمل الحاكم الأعلى خطأ غيره ؟ وكيف سنلقى الله ؟.
عزله بقوة السلاح متى يباح ؟
الناس بصفة عامة مجبولون على النفور ممن يحكمهم ، وهذا أمر أكدته رواية عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد روي أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : " إن للناس نفرة عن سلطانهم ، فأعوذ بالله أن تدركني وإياكم ضغائن محمولة ، ودنيا مؤثرة ، وأهواء متبعة ، وإنه ستتداعى القبائل ، وذلك نخوة من الشيطان ، فإن كان ذلك فالسيفَ السيفَ ، القتلَ القتلَ ، يقولون : يا أهل الإسلام ، يا أهل الإسلام " فهذا عمر يحذر من استعمال القوة ، ومن الاقتتال بين المسلمين من أجل المنصب ، وهذا ما خالفه بعضنا بناء على فتاوى زائغة.
وهذا الشعور بالنفور من الحكام يتجذر ويزداد قوة بما يقع منهم من ظلم ، فينصبّ تفكير الناس على عزلهم بأي ثمن ، وبتتبع النصوص نجد أن عزلهم بالقوة يباح في حالتين ، أولاهما : العجز عن تسيير أمور تلك البلاد بسبب أمراض عضوية أو نفسية ، وثانيتهما : الارتداد ردة صريحة ، أما الأولى ، وهي العجز الصحي أو النفسي عن الإدارة : فإن الحاكم لا يختلف عما سواه من البشر ، وهو عرضة لأن يصاب بأي من هذين النوعين ، وحينها سيكون المسلمون بمنزلة من لا حاكم لهم فيجوز استبداله بغيره وعزله ؛ وعنه جاء في غياث الأمم : " ولو جُنّ جنونا مطبقا انخلع ، وكذلك لو ظهر خَبَل في عقله وعَتهٌ بَيّنٌ في رأيه ، واضطرب نظره اضطرابا لا يخفى إدراكه ولا يحتاج في الوقوف عليه إلى فضل نظر وعَسُرَ بهذا السبب استقلاله بالأمور ، وسقطت نجدته وكفايته ، فإنه ينعزل كما ينعزل المجنون ، فإن مقصود الإمامة القيام بالمهمات والنهوض بحفظ الحوزة ، وضم النشر ، وحفظ البلاد الدانية والنائية بالعين الكالئة الحافظة ، فإذا تحقق عُسْرُ ذلك لم يكن الاتسام بنعته بالإمامة معنى " ففي مثل هذه الحالة يباح شرعا عزله ، لأن العزل لن يسفر عن إراقة دماء ، ولا ظلم ، ولا تفتيت للحمة الوطنية ، ولا تفكيك للبنية الاجتماعية ولا قطيعة بينهم ، وهذه أمور تجب مراعاتها دائما.
وأما الثانية : وهي الردة الصريحة ، فإن من الردة ما هو ظاهر صريح يعرفه كل أحد ، ومنها ما هو خفِيّ لا يعرفه إلا العلماء ، وقد صرّح بهذا صاحب الذخيرة ، فبعد أن ذكر أنها تكون من الأفعال ومن الأقوال قال : " ولكل منهما مراتب في الظهور والخفاء " والردة الظاهرة هي التي رخص الرسول في عزله بسببها فقط ، وأما الخفية فلا يجوز العزل بسببها قولا واحدا.
والصريحة أن يعلن أنه ترك الإسلام واعتنق دينا آخر ، فبهذا يرتد ردة لا يجهلها أحد ، وهنا يعزل بالقوة وبصورة فورية ، جاء في شرح ابن بطال : " والذي عليه جمهور الأمة أنه لا يجب القيام عليهم ولا خلعهم إلا بكفرهم بعد الإيمان وتركهم إقامة الصلوات ، وأما دون ذلك من الجور فلا يجوز الخروج عليهم إذا استوطأ أمرهم وأمر الناس معهم ؛ لأن في ترك الخروج عليهم تحصين الفروج ، والأموال ، وحقن الدماء ، وفى القيام عليهم تفرق الكلمة وتشتت الألفة " فاعتبر أن ترك الإمام إقامة الصلاة بمنزلة إنكار وجوبها ؛ ومقتضى قوله : " استوطأ أمرهم وأمر الناس " أن من لم يبسط سلطانه على البلاد ، ولم يستتب الأمن في ظله ، كما هو الحال في الصومال وليبيا فعزله والإطاحة به جائز شرعا.
وقد أشار حديث عبادة بن الصامت : " وان لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا ، عندكم من الله فيه برهان " إلى جواز الإطاحة بالمرتد ردة صريحة ، ولم ينص عليه بما لا لبس فيه ، والردة الصريحة مثل الطلاق الصريح ، يعرفهما الجميع ولا يختلف عليهما اثنان ، وقال العلماء عنها : إنها تلك المبنية على نص صريح ، جاء في فتح الباري : " قوله عندكم من الله فيه برهان ، أي : نَصّ آية ، أو خبرٌ صحيحٌ لا يحتمل التأويل " وفيه بعده بقليل : " ولم يستثنوا من ذلك ( حرمة عزله ) إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح ، فلا تجوز طاعته في ذلك ، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها ".
وقد يتوَهّم البعض أن ما يكون قريبا من الصريحة يبيح عزله بالقوة أيضا ، لكن الأمر ليس كذلك ، وعنه قال : " ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل " فالمختلف فيه لا يبيح العزل بقوة السلاح ، لأنه ليس من الكفر الصريح المتفق عليه.
الخلاصة 16
أن العزل بالقوة يباح في حالتين فقط ، هما : العجز الصحي ، والثانية : الكفر الصريح كما جاء في الحديث ، وأضاف البعض إهمال الفرائض وكذلك إباحة ما حرمه الإسلام تحريما قاطعا ، وما عداهما فالعزل محرم ، شاء من شاء وأبى من أبى ، درءا للفتنة .
أمور نصّ بعض العلماء على عزله بالقوة بسببها
هناك أمور أخرى نص بعض العلماء على عزل من تقع منه ، لا تتنافى مع قصر العزل على المرتد صراحة ، فمن حكام اليوم من لم يرتد صراحة ، ولكن شرّعوا تشريعات رأى العلماء أنها توجب العزل ، وهم الذين يمنحون رخصا لمزاولة ما حرم الله كالمعاملات الربوية ، والترخيص بالبغاء ، ولحم الخنزير ، والقمار ، وبيع المسكرات ، وعدم تطبيق العقوبات الحدية ، لقد صرح البعض بأن حكم هؤلاء لا يختلف عن المرتد صراحة ، ومن ذلك ما جاء في المفهم في قوله : " ثم إن كانت تلك المعصية كفرًا : وجب خلعه على المسلمين كلهم ، وكذلك لو ترك إقامة قاعدة من قواعد الدين ؛ كإقام الصلاة ، وصوم رمضان ، وإقامة الحدود ، ومَنَع من ذلك ؛ وكذلك لو أباح شرب الخمر ، والزنا ، ولم يمنع منهما ، لا يختلف في وجوب خلعه " .
ومنه ماء جاء في كتاب الخلافة لرشيد رضا : " ومن المسائل المجمع عليها قولا واعتقادًا : أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وإنما الطاعة في المعروف ، وأن الخروج على الحاكم المسلم إن ارتد عن الإسلام واجب ، وأن إباحة المجمع على تحريمه كالزنا والسكر ، واستباحة إبطال الحدود ، وشرع ما لم يأذن به الله كفر وردة " فقد أنزلوا الحاكم الذي يرخص لذلك منزلة الفرد العادي الذي ينكر معلوما من الدين بالضرورة ، في الحكم بردتهما.
إن معظم الحكام اليوم تشريعاتهم تسمح بالقمار ، وتصنيع الخمر وبيعها ، وبالزنا ، والخنزير ، واستبدلوا عقوبات الجرائم المنصوص عليها شرعا بعقوبات أخرى يعاقبون بها مرتكبي تلك الجرائم ، وبناء على ما قاله القرطبي ورشيد رضا فإن الإطاحة بها واجب ، خاصة إذا لم يسفر العزل عن ظلم وفتنة.
بيان الدول التي تبيح بعض المحرمات الآن
من المعلوم أن الخمر ، والزنا ، والقمار ، ولحم الخنزير ، والقروض الربوية كانت محرمة في بلاد المسلمين فلا ترخص السلطات فيها لأحد ، حتى خضع العالم الإسلامي للاستعمار الصليبي ، ولما سيطر على معظم أراضينا أباح ما ذكر وغيره ، ولما انسحب من ديارنا كان الواجب على الأنظمة التي حلت محله إلغاء التشريعات التي تمنح التراخيص لكنها ظلت تمنحها ، وعليه ، فقد فقدت شرعيتها ، وكان الواجب على العلماء إجبار الحكومات على المنع منها ، إلا أنهم لاذوا بالصمت.
ولكي نضع النقاط على الحروف نذكر الدول التي لم تلغ ما أباحه المستعمر النصراني من المحرمات ، وبالتالي فإن الإطاحة بها واجب شرعا ؛ فمن الدول الواقعة في شمال أفريقيا : المملكة المغربية لم تلغ تلك القوانين حتى يومنا هذا ، الجمهورية الجزائرية لم تلغ تلك القوانين حتى يومنا هذا ، الجمهورية التونسية لم تلغ تلك القوانين حتى يومنا هذا ، المملكة الليبية لم تلغ تلك القوانين حتى أطاح مجموعة من الضباط بنظامها عام 69 ومنذ ذلك العام لم تمنح الدولة ترخيصا لها ، وأوقفت ما كان ساري المفعول منها ؛ وهذا أمر أراد القذافي نشره خارج ليبيا ، وتحديدا في مصر ، وقد حصلت مُلاسنة بينه وبين الكاتبة والأديبة المصرية أمينة السعيد ، التي اعتبرت الفسق والبغاء المرخص به في شارع الهرم في القاهرة نوعاً من كرم الضيافة المصرية ، أما هو فندد بمخازي شارع الهرم ، في ندوة في القاهرة طالب فيها بتنظيف الشراع المذكور من دور البغاء ، وإغلاق محال الدعارة السياحية ، وعُلبِ الليل أو : النوادي الليلية في المدن المصرية ؛ وأخيرا : جمهورية مصر العربية لم تلغ تلك القوانين حتى يومنا هذا.
أما الدول العربية الواقعة في جنوب غرب آسيا فمنها : بعض الإمارات المنضوية تحت دولة الإمارات العربية المتحدة لم تلغ تلك القوانين حتى يومنا هذا ، إمارة الكويت لم تلغ تلك القوانين حتى يومنا هذا ، إمارة قطر لم تلغ تلك القوانين حتى يومنا هذا ، المملكة الأردنية لم تلغ تلك القوانين حتى يومنا هذا ، الجمهورية العراقية لم تلغ تلك القوانين حتى يومنا هذا ، الجمهورية العربية السورية لم تلغ تلك القوانين حتى يومنا هذا ، الجمهورية اللبنانية لم تلغ تلك القوانين حتى يومنا هذا.
ومن الدول الإسلامية غير العربية : دولة الباكستان لم تلغ تلك القوانين حتى يومنا هذا ، الجمهورية التركية لم تلغ تلك القوانين منذ أن تخلت عن أحكام الشريعة الإسلامية باختيارها عام 1924 عندما ألغت الخلافة العثمانية وأعلنت الجمهورية ، لا نتيجة لسيطرة المستعمر عليها ، وما زالت بؤرة فسق وفجور حتى يومنا هذا.
كل هذه الدول أبقت أو فعلت حكوماتها ما يوجب الإطاحة بها على ما جاء في كتابي المفهم للقرطبي ، والخلافة لرشيد رضا ( بما فيها ليبيا في العهد الملكي ) فهل الأولى إسقاطها وتغييرها بالقوة ؟ أم ينبغي التريث واستبدال ذلك بتوجيه خطاب للشعوب أن تفرض على حكوماتها إلغاء تلك التشريعات ، وإلا فإنه ليس أمام الجمهور إلا عزلها بالقوة خلال فترة معينة ؟ ربما كان القول بالتريث أقرب للصواب ، لما يأتي :
أولا : أن ما جاء في كتابي المفهم والخلافة لم يذكر فيه أن الحاكم حين يبيح هذه المحرمات فالإطاحة به واجبة أو مباحة مع الاقتتال والفتنة ؛ ثانيا : أن الحاكمين اليوم هم في وضع معقد من هذه الناحية ، وعلى العلماء إعانة الحكومات في علاج هذه الظواهر ، إذ هناك من المثقفين من يخادعهم ، ويزين الإبقاء عليها ؛ ثالثا : يظل الخوف من إراقة الدماء حاجزا منيعا هنا ، وارتكاب أخف الضررين قاعدة مهمة من قواعد الدين ، إن منح الرخص لمزاولة ما حرم الله منكر ، تغييره واجب ، لكن لا يجوز أن يؤدي إلى ما هو أعظم منه ، كما هو معلوم في قواعد الشريعة.
وإذن فالواجب في المرحلة الأولى تنبيه المسئولين لهذا الخلل في تشريعاتهم ، وإعانتهم على من يروّجون لضرورة الإبقاء عليها من مبدإ الحرية الشخصية للفرد في الأكل والشرب وإيجاد مواطن عمل لبعض الأسر ، وفتح البلاد أمام السياحة الوافدة لما تدره من أموال طائلة ؛ إن الحرية حين تستلزم الحرام يجب منعها ، كما تمنع جميع المجتمعات الإنسانية من الانتحار وتعاطي المواد السامة والمخدرات وغيرها.
وأما ما يقولونه من أن المنع منها سيجعل مستقبل الأسر التي تعيش عليها في مهب الريح ، فالرد عليه بأن الأرزاق بيد الله ، والمؤمن حين يخيّر بين عمل مربح ويكون سببا في عذابه يوم القيامة ، وعمل يكفي للحد الأدنى من العيش دون أن يعذب ، فعليه اختيار الحد الأدنى ، لكي ينجي نفسه ومن يعولهم من العذاب.
أما فتح الباب واسعا أمام السياح والسائحات ، فهو نوع من العهر الأخلاقي ، إن السياحة تستلزم الفسق والفجور ، والدعوة لها دعوة للخلاعة والانحلال والتفكك الأسَري ، وما من مجتمع إلا ويمكن أن يعيش دون لجاجة هؤلاء الفاسقين الخبثاء وأفكارهم الماجنة ؛ والمرأة تمثل عنصرا أساسيا في الفجور لو توفر لها أسباب العيش الكريم لن تفكر في اقتراف الفاحشة ، وستنأى بنفسها عن هذا الانحراف في السلوك ، وهي لا تشعر بالسرور عندما يعبث بها الرجال ؛ والخلاعة بوجه عام لا يقبلها الإنسان حين يكون عقله سليما ، ولذلك فإنهم يحتسون الخمر ليمتلكوا الجرأة على فعل تلك الخبائث ؛ فهذه بعض ما يبيح الخروج على الحاكم ، وتبقى أمور تحتاج لمعرفة وجه الحق فيها.
ولو قلنا بأن هذه التشريعات بمنح الرخص للمحرمات ردة شرعا ، فعلى العلماء أن يتوجهوا بخطابهم إلى السلطات التشريعية لتلك البلدان ، وليتوجهوا بخطابهم للجمهور أيضا أن يشترطوا على أي مرشح أن يقرر إلغاء تلك التشريعات المخالفة لديننا ، فمثلا في المغرب والجزائر وتونس يطلبون منهم التصويت على إلغائها ، بدل التوجه لخلع الملوك والرؤساء ؛ وأما في مصر ، والأردن ، وسوريا ، ولبنان ، والعراق ، فيجب أولا تحديد حقوق الأقلية غير المسلمة فيها ، من حيث الإبقاء على منح تلك الرخص أو منعها ، فالمسألة تستوجب دراسة علمية شاملة تتناسب مع الحداثة ، ولا تخالف قواطع الأدلة الشرعية.
الخاتمة 17
أن العمل على إسقاط الحكومة بالقوة لأنها ظالمة ، أو جائرة ، أو بعض أعضائها فاسقون ؛ محرم إذا ظنوا حدوث اقتتال بينهم ، فأما الجور والفسق فقد تقدم الإجماع على عزل الحاكم عند الأمن من الفتنة والظلم ، وما يردده بعض الناس في حق بعض الحكام من كفرهم فإنه لا يبيح عزلهم بسببه ، لأنه من الكفر غير الصريح ، والذي أذن الرسول للناس في العزل بسببه بالقوة هو الكفر الصريح ، واعتبر العلماء أن من يمنح منهم رخصا بتداول بعض المحرمات وممارستها كافر كفرا صريحا ، لأنه بمنزلة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة في حق غيره من الناس ، وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة من الناس كحرمة السرقة والقتل ردة قولا واحدا ، فاعتبروا من تبيح المحرمات من الحكومات بمنزلة من ينكر الضروري من الأحكام ، وأن الواجب على العلماء في تلك الدول وغيرهم مخاطبة السلطات التشريعية فيها ، وعدم الدعوة للإطاحة بمن هم في أعلى هرم السلطة من الملوك والرؤساء.
قوانين ومواقف صدرت عن بعض حكام اليوم
بعد أن عرفنا أن المنع من إقامة الحدود الشرعية ، ومنح رخص لبيع المحرمات من ممارسة الزنا ، وبيع الخمر والخنزير ، والترخيص بالقمار ، هو ردة صرح البعض بأن من يبيحها يجب عزله بالقوة ؛ سنتعرف هنا على بعض ما صدر من بعض الحكام المعاصرين من أمور غير ما تقدم لتحديد ما إن كانت من نوع الكفر الصريح الذي يبيح خلع الحاكم بالقوة شرعا أو لا.
وإذا فتشنا في مواقف حكام اليوم نجد منهم من خالف نصوصا شرعية ؛ كالتسوية بين الذكور والإناث في الميراث في إطار المساواة بين المرأة والرجل ، والطلب من الناس عدم صيام رمضان خوفا من أن يؤثر على أداء عملهم ؛ وعدم الأخذ بالسنة كمصدر للتشريع للمجتمع ، وقصر البعثة النبوية على العرب ، وحذف فعل ( قل ) من سور الإخلاص والفلق والناس ، ونكران العروج بالنبي وشفاعته للناس ، ونحوهما مما هو ثابت في الأحاديث ، وجعل التأريخ بوفاة الرسول ، وغير ذلك.
1
ــ التسوية بين الذكور والإناث في الميراث
فأما التسوية بين الذكور والإناث في الميراث ، فقد نادى به من يزعمون أنهم يريدون العدالة الاجتماعية ، وهو أمر تميّز به الرئيس التونسي الأسبق الحبيب أبو رقيبة عمن سواه من الرؤساء والملوك والأمراء ؛ ولا ريب أنه ردة توجب عزله بالقوة مهما كانت النتائج ، لأنه مخالف لنص شرعي وارد في كتاب الله تعالى ، يقول فيه سبحانه : " وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ " لقد ردّ ما جاء صريحا هنا ، حين سوّى بين الجنسين في الميراث ؛ وكلامه هذا مردود من وجهة علمية ، لا يختلف عن رد الأدلة التي تحرم الخمر والزنا والقمار وغيرهما.
2 ــ الأمر بعدم صوم شهر رمضان
وهذا صدر من أبي رقيبة كذلك ، ومن الصعب القول بأنه ردة توجب عزله فأقصى ما يقال عنه أنه حاكم أمر بمعصية ، والواجب في مثل هذه الحالة عدم تنفيذ ذلك الأمر ، فهنا ينطبق حديث : " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " وحديث : " إنما الطاعة في المعروف " وهذا الأمر منه بالفطر لم يكن على سبيل الإيجاب ، ولهذا لم يعاقب من صام منهم ، وأي حاكم يمنع مما أمر الله به أو يفرض ما حرمه الله ، فيجب عدم الالتفات إلى قوله ذلك ورفض أوامره وطاعته حرام ولا يعزل بسبب ذلك ، وقد تقدم في قصة معاوية بن أي سفيان.
وأما تشريعاته بالترخيص في ممارسة ما حرمه الله ، كبيع الخمر وغير ذلك مما يشترك فيه مع عدد من الرؤساء والأمراء والملوك فهي ردة من جميعهم ، وهل يجب عزلهم أو تذكيرهم بمنعها وإلا أسقطوهم بالقوة ؟ هذا هو الأقرب ، فلا بد من إقامة الحجة عليهم قبل اتخاذ إجراء ضدهم.
3 ــ رفض العمل بالسنة في التشريع
رفض العمل بالسنة في التشريع ، اشتهر عن عدد من الطبقة المثقفة المعاصرة ، وقد قام بعض أهل العلم يدعى : خادم حسين إلهي بخش ببحث المسألة في أطروحة ماجستير بعنوان : القرآنيون وشبهاتهم حول السنة ، وذكر فيها أن من العلماء من يردها جملة وتفصيلا ، ثم ذكر أسماءهم ، ومنهم من ينكرها إنكارا جزئيا ، وقد أورد أسماء عدد منهم ، كالشيخ محمد رشيد رضا ، والشيخ محمود شلتوت ، والشيخ محمد بخيت المطيعي ، الذي تولى ذات يوم منصب شيخ الأزهر ، والعقيد القذافي.
وسيكون الحديث عن هذه المسألة بشيء من التفصيل ، إن رفض العمل بها مسألة علمية أكاديمية محضة ، وهو رأي البعض منذ بداية عصر تدوين العلوم الإسلامية ، وتمتد جذورهم إلى ما قبل عصر الإمام الشافعي ، وقد حاورهم الإمام وأثبت لهم خطأهم ، وذكر ذلك في كتاب الأم تحت عنوان : " باب ذكر الطائفة التي ردت الأخبار كلها " فالواجب إذا رفض البعض الاحتكام إلى السنة هو إقامة الحجة عليهم.
وقد حصل هذا مع القذافي فعلا ، فالمركز الأعلى العالمي للمساجد أرسل وفدا لمقابلته لتوضيح الرؤية له ، ونشرته مجلة البحوث الإسلامية تحت عنوان : ( بيان من الرئاسة العامة للمجلس الأعلى العالمي للمساجد ، حول ما دار مع العقيد معمر القذافي حول إنكاره للسنة النبوية كمصدر للتشريع ، كما تناقلتها الصحف والأنباء ) ومما جاء فيه : قام وفد من الأمانة العامة للمجلس المذكور برئاسة فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان ، عضو مجلس القضاء الأعلى بالمملكة العربية السعودية ، وعضوية كل من : فضيلة الشيخ أبي بكر محمود جومي ، كبير قضاة نيجيريا ، وعضو الرابطة ، ومجلس المساجد ، وفضيلة الشيخ أحمد الحماني ، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر وعضو الرابطة ، ومجلس المساجد ، وفضيلة الشيخ علي مختار ، الأمين العام المساعد للمجلس الأعلى العالمي للمساجد ، بزيارة الجماهيرية العربية الليبية بناء على ما دار بين الأمانة والجماهيرية للبحث مع فخامة العقيد معمر القذافي حول ما تناقلته الصحف والأنباء من إنكاره للسنة النبوية أن تكون مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي ؛ وقد تم بالفعل اجتماع الوفد بفخامته في الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر صفر 1399 هـ في مدينة بني غازي بليبيا ، وتبادل الجميع وجهات النظر ........ فأظهر اقتناعه بأكثر ما قاله الوفد ".
وجاء في آخر البيان ما يلي : " هذا ملخص قرار الوفد ، وقد سرّنا كثيرا رجوع فخامة العقيد إلى الصواب في الأخذ بالسنة الصحيحة .... وقد كتبنا في هذا المقام مقالا أبسط من هذا البيان ننشره قريبا إن شاء الله ".
فبهذا يتضح أن رأيه هو ومن قال بقوله ليس ردة ، وربما كان تعبير بعض العلماء بأن القذافي ضال لأنه أنكر العمل بالسنة قد فهم منه البعض أن هذا العالم حكم بردة القذافي.
ولا يغيب عن بالنا مسألة في غاية الأهمية في هذه المسألة ، فاستنادا لما أخذ به المشرع الليبي من عقوبة الزاني المتزوج بالجلد بدلا عن الرجم الثابت في السنة النبوية جعل البعض يحكم بردة القذافي لأنه رفض العقوبة الثابتة في الحديث الصحيح ، ومعلوم أن المشرع في عهد الملك إدريس السنوسي لم ينص على العقوبة بالجلد ولا بالرجم ، لذا ينبغي الحكم بردته كذلك ، لأنه إذا كان من لا يرجم الزاني مرتدا ، فإن من لا يرجمه ولا يجلده مرتد من باب أولى ، لأنه لم يرد ما جاء في السنة فقط بل رد ما جاء في القرآن والسنة معا ، ومن المفارقات تشنيعهم على القذافي لأنه لم يعمل بالسنة ، في الوقت الذي يشيدون فيه بالملك إدريس الذي لم يعمل بالسنة ولا بالقرآن !.
وليس من هذه الجهود ما كان من الإمام موسى الصدر من قريب أو من بعيد ، وهو الذي لا يزال أنصاره يدعون الله أن يعجل فرجه ، ونخشى أن تكون استجابة لهم في دعائهم هذا بقدر استجابته لدعائهم أن يعجل بخروج إمامهم المهدي ، الذي ما انفكوا يدعون بخروجه منذ أكثر من ألف سنة تقريبا ؛ إنه لا يتصور مسلم من ذلك الرجل أن يدافع عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام التي يرويها أهل السنة ، فهو من فرقة تلعن الشيخين ومعظم الصحابة وأمهات المؤمنين ، ولا يعترف بما كتبه الشيخان البخاري ومسلم ولا غيرهما ، ولا يقيم وزنا لهذا كله ؛ وربما أغضب القذافي في ذلك الحوار كما يغضب أي سني من محاور شيعي ، فأمر بإنزال عقوبة قاسية به.
4 ــ قصر البعثة النبوية على العرب
وهذه فكرة ربما تؤخذ من كلام القذافي هي الأخرى ، فقد قالها فترة من الزمن ، وهو بمنزلة من عمل بدليل منسوخ ، كقوله تعالى : " لتنذر أم القرى ومن حولها " وقوله : " وأنذر عشيرتك الأقربين " وغيرها ، وهذه الآيات نسختها آيات أخرى تثبت عموم البعثة النبوية بالنسبة له عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى : " وأرسلناك للناس رسولا " وقوله : " لتنذر من كان حيا " وغيرهما ، فمن قال بقصر البعثة النبوية على العرب فالواجب تذكيره بما جاء من أدلة تفيد نسخها ، فإن أصر على رأيه فهو مرتد يقينا ، فقد رد ما جاء في كتاب الله تعالى ؛ وأما قبل بيان ذلك فلا يجوز الحكم بردة من يقوله ، وقد كان القذافي يقول بقصر البعثة النبوية على العرب في مرحلة متقدمة ، ثم لم يلبث أن قال بنبوته للناس كلهم مؤخرا حين قام بعض الرسّامين الغربيين برسم ساخر من رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام فردّ بأن الأولى للرسامين الدفاع عنه لأنه نبي للناس كلهم بخلاف عيسى بن مريم فهو لم يرسل للأوربيين وغيرهم.
حوادث مشابهة في عصر الصحابة
تذكر المصادر التاريخية أنه أن بعض الصحابة أنكر بعض ما نحكم اليوم بردة من ينكره ، بسبب تأويل الأدلة الشرعية الواردة فيها تأويلا خاطئا ، ولم يحكم عليهم معاصروهم بأنه مرتدون ، وقد كانوا من الصحابة رضي الله عنهم جميعا ، ومن هؤلاء قدامة بن مضعون ، وأبو جندل بن سهيل بن عمرو ، وأبو محجن الثقفي ، وضرار بن الأزور ، فأما خبر قدامة بن مضعون فقد جاء عنه في معجم الطبراني الكبير : " عن عبد الله بن عامر بن ربيعة : أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين ، وهو خال حفصة وعبد الله بن عمر ، فقدم الجارود سيد عبد القيس على عمر فقال : يا أمير المؤمنين إن قدامة شرب فسكر ، وإني إذا رأيت حدا من حدود الله حقا عليّ أن أرفعه إليك ، فقال عمر : من يشهد معك ؟ قال : أبو هريرة ، فقال : بم تشهد ؟ قال : لم أره يشرب ، ولكنى رأيته سكران يقيء ، فقال عمر : لقد تنطعت بالشهادة ، ثم كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين ، فقدم ، فقام إليه الجارود فقال : أقم على هذا كتاب الله ، قال : أخصم أنت أم شهيد ؟ قال : بل شهيد ، قال : قد أديت الشهادة ، فصمت الجارود حتى غدا على عمر ، فقال : أقم على هذا حد الله ، فقال عمر : ما أراك إلا خصما , وما شهد معك إلا رجل ، فقال الجارود : أنا أنشدك الله ، فقال عمر : لتمسكن لسانك أو لأسؤنك ، فقال أبو هريرة : إن كنت تشك في شهادتنا ، فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها ، وهى امرأة قدامة ، فأرسل إلى هند بنت الوليد ينشدها ، فأقامت الشهادة على زوجها ، فقال عمر لقدامة : إني حادّك : فقال : لو شربت كما يقولون ما كان لكم أن تجلدوني ، فقال عمر : لم قال قدامة : قال الله " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " الآية ، فقال عمر : إنك أخطأت التأويل ، إن اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله عليك ، ثم أقبل عمر على الناس ، فقال : ماذا ترون في جلد قدامة ؟ فقال القوم : ما نرى أن تجلده ما كان مريضا ، فسكت عن ذلك أياما ، ثم أصبح يوما وقد عزم على جلده ، فقال لأصحابه : ما ترون في جلد قدامة ؟ فقال القوم : ما نرى أن تجلده ما دام وجعا ، فقال عمر : لأن يلقى الله على السياط أحب إلى من أن يلقى الله وهو في عنقي ، ائتوني بسوط تام ، فأمر عمر بقدامة فجلد ، فغاضب عمرَ قدامة وهجره ، فحج ، وحج قدامة معه مغاضبا له ، فلما قفلا من حجهما ، ونزل عمر بالسقيا نام ، فلما استيقظ من نومه ، فقال : عجّلوا عليّ بقدامة فائتوني به ، إني لأرى أن آتيا أتاني فقال : سالم قدامة ( صالحه ) فإنه أخوك ، فلما أتوه أبى أن يأتي ، فأتى عمر إليه ، واستغفر له ، فكان ذلك أول صلحهما ".
فهذا قدامة رضي الله عنه كان لا يرى أن من يشرب الخمر لا جناح ( أي لا إثم ) عليه ، ولا حد في الشرب ما كان مؤمنا اتقى الله ، فلم يقل له عمر ومن معه من الصحابة : لقد ارتددت يا قدامة ، بل قالوا له قولا حسنا ، فأفهموه أن شربه محرم ، وأقاموا عليه حد الشرب ، واصطلح عمر وقدامة بما لا يبقي من أحقادهم شيئا.
وأما خبر غيره فقد ذكره السيوطي في الجامع الكبير ، وجاء فيه : " عن عروة بن الزبير قال : شرب أبو الأزور وضرار بن الخطاب وأبو جندل بن سهيل بن عمرو بالشام ، فأتى بهم أبو عبيدة بن الجراح فقال أبو جندل : والله ما شربتها إلا على تأويل ، إني سمعت الله يقول : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات " فكتب أبو عبيدة إلى عمر بأمرهم ، فقال أبو الأزور : إنه قد حضرنا عدونا ، فإن رأيت أن تؤخرنا إلى أن نلقى عدونا غدا ، فإن الله أكرمنا بالشهادة كفاك ذاك ، ولم تقمنا على جزائه ، وإن نرجع نظرت إلى ما أمرك به صاحبك فأمضيته ، قال أبو عبيدة : فنعم ، فلما التقى الناس قتل أبو الأزور شهيدا فرجع الكتاب كتاب عمر إن الذي أوقع أبا جندل في الخطيئة قد تهيأ له فيها بالحجة ، وإذا أتاك كتابي هذا فأقم عليهم حدّهم ، والسلام ، فدعا بهما أبو عبيدة فحدهما ، وأبو جندل له شرف ولأبيه ، فكان يحدث نفسه حتى قيل : إنه قد وسوس فكتب أبو عبيدة إلى عمر ، أما بعد فإني قد ضربت أبا جندل حدّه ، وإنه حدث نفسه حتى قد خشينا عليه أنه قد هلك ، فكتب عمر إلى أبى جندل ، أما بعد فإن الذي أوقعك في الخطيئة قد أجرى عليك التوبة ، " بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا إله إلا هو إليه المصير " فلما قرأ كتاب عمر ذهب عنه ما كان به كأنما أنشط من عقال ".
هذا حال أولائك المسلمين الذين لا يتصيدون الأخطاء لغيرهم ، ولا يجعلون من الحبة قبة ، أما أهل زماننا فهمهم الوحيد التشنيع على من لا يعجبهم ، والتمسك برأيهم دون التفات للأدلة الشرعية " وَيَحْسِبُونَ أَنَهُمْ مُهْتَدُونَ ".
5 ــ حذف فعل الأمر ( قل ) من سور الإخلاص والمعوذتين
وأما حذف فعل الأمر ( قل ) من سورة الإخلاص والمعوذتين فليس كفرا ، إنها قراءة بعض الصحابة ، واشتهرت عن العقيد القذافي أخيرا ، فتوهم البعض أنه أنكر بعض ما جاء في القرآن الكريم ، ورآه مرتدا بسبب ذلك ، ولكن في كتب التفسير التي تتناول القراءات المختلفة بيان من قرأها كذلك من الصحابة ، فجاء في التفسير الكبير للرازي ، المسمى مفاتيح الغيب : " المسألة الثانية : اعلم أنهم أجمعوا على أنه لا بد في : " قل يا أهل ، قل يأيها الكافرون " من : ( قل ) وأجمعوا على أنه لا يجوز لفظ ( قل ) في سورة : " تُبْتُ " وأما في هذه السورة فقد اختلفوا ، فالقراءة المشهورة " قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ " وقرأ أبَي ، وابن مسعود بغير قل ، هكذا : " هُوَ الله أحد " وقرأ النبي بدون قل هو ، هكذا : " اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ ".
ومنه أيضا ما جاء في الكشاف للزمخشري ، فقال فيه : " وقرأ عبد الله وأبيّ ( هو الله أحد ) بغير ( قُلْ ) وفي قراءة النبي : ( الله أحد ) بغير ( قُلْ هُوَ ) وقال : من قرأ الله أحد كان بعدل القرآن ، وقرأ الأعمش : ( قل هو الله الواحد ).
ومنه كذلك ما جاء في روح المعاني ، حيث قال : " وقرأ عبد الله وأبي : ( هو الله أحد ) بغير قل ، وقد اتفقوا على أنه لا بد منها في : " قُلْ يا أهل " ، قل يا أَيُّهَا الكافرون " ولا تجوز في : " تبت " فقيل لعل ذلك لأن سورة الكافرين مشاقة الرسول أو موادعته عليه الصلاة والسلام لهم ، ومثل ذلك يناسب أن يكون من الله تعالى ، لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالإنذار والجهاد ، وسورة تبت معاتبة لأبي لهب ، والنبي على خلق عظيم وأديب جسيم ، فلو أمر بذلك لزم مواجهته به وهو عمه عليه الصلاة والسلام ، وهذه السورة توحيد ، وهو يناسب أن يقول به تارة ويؤمر بأن يدعو إليه أخرى " انتهى كلامه رحمه الله.
6 ــ نكران الشفاعة والمعراج
وأما نكران الشفاعة والمعراج وغيرهما ، فكل من تصدر عنه مخطئ وليس كافرا عند جمهور العلماء ، لأن أدلتها غير متواترة ، ومن ينكر أي شيء دليله غير متواتر لا يكفر ، وقد نص صاحب كتاب مصباح الراوي على هذا فقال : " ولذلك قالوا : إن أحاديث الآحاد لا تفيد القطع وإنما تفيد الظن ، وما صح منها فإنه يفيد الظن الراجح الذي يوجب العمل ، كشهادة العدول عند القاضي " انتهى كلامه ؛ وشهّر بعضهم أخيرا كفر من أنكر ما جاء في الحديث الصحيح ، ومن هنا أفتوا بكفر القذافي ، ومما تقدم يتبين أن تكفيره ليس متفقا عليه بين العلماء ، فمن اعتمد عليها وحمل السلاح لعزله قد ارتكب ذنبا عظيما.
7 ــ الأمر بالتأريخ بوفاة الرسول عليه الصلاة والسلام
الأمر بالتأريخ بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بدل التأريخ بالهجرة النبوية كما هو متعارف عليه بين المسلمين لا علاقة له بالكفر والإيمان من قريب أو بعيد ، فمن يرى أنه مرتد فهو موغل في الحماقة ، إنه ليس ردة ، بل ولا معصية كبيرة ولا صغيرة ، فالتأريخ بهذه الصورة لم يكن على عهد الرسول ولا عهد أبي بكر ، ويدل على هذا ما جاء في سيرة ابن كثير ، وهو : " وقال الواقدي : حدثنا ابن أبى الزناد عن أبيه قال : استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة ؛ وقال أبو داود الطيالسي عن قرة بن خالد السدوسى ، عن محمد بن سيرين ، قال : قام رجل إلى عمر فقال : أرخوا ، فقال : ما أرخوا ؟ فقال : شيء تفعله الأعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا ، فقال عمر : حسن ، فأرِّخوا ، فقالوا : من أي السنين نبدأ ؟ فقالوا : من مبعثه وقالوا من وفاته ، ثم أجمعوا على الهجرة ، ثم قالوا : وأي الشهور نبدأ ؟ قالوا : رمضان ، ثم قالوا : المحرم ، فهو مصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام ، فاجتمعوا على المحرم " وأضاف ابن كثير : " وقال ابن جرير : حدثنا قتيبة ، حدثنا نوح بن قيس الطائى ، عن عثمان بن محصن ، أن ابن عباس كان يقول في قوله تعالى : " والفجر وليال عشر " : هو المحرم فجر السنة ، وروي عن عبيد بن عمير قال : إن المحرم شهر الله وهو رأس السنة ، يكسى فيه البيت ويؤرخ به الناس ويضرب فيه الورِق ( عملة من الفضة ) قال أحمد : حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، قال : إن أول من وَرّخَ الكتب يْعْلَى بن أمية باليمن ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في ربيع الأول ، وإن الناس أرخوا لأول السنة " انتهى كلامه.
ومن كتاب السيرة لابن حبان : " فلما كانت السنة السادسة عشرة أراد عمر بن الخطاب أن يكتب التأريخ ، فاستشار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم من قال من النبوة ، ومنهم من قال من الهجرة ، ومنهم من قال من الوفاة ، فأجمعوا على الهجرة ، وكتب التأريخ لسنة ست عشرة من الهجرة " . انتهى كلامه.
إن ما تقدم يوضح أن التأريخ بالوفاة كان قد قُدِّمِ ضمن عدة اقتراحات ، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وما كان هكذا سبيله فلا سبيل لاعتبار من يريد أن يحدث فيه تعديلا أنه عاص ، وعليه فتغيير التأريخ لا شيء فيه شرعا ، فهو ليس من أمور الدين.
الخلاصة 18
التسوية بين الجنسين في الميراث والترخيص للمحرمات كفر صريح يوجب عزل الحاكم ، وهل ولو أريقت الدماء ؟ ونكران السنة ليس من الردة في شيء ، وما ثبت في الحديث الصحيح فإنكاره ليس كفرا صريحا ، والشرع لم يبح العزل بالقوة إلا مع الكفر الصريح.
الاستعانة على عزله بغير المسلمين
عندما أقر بعض العلماء مبدأ جواز الاستعانة بغير المسلمين فإنما أرادوا منه الاستعانة بهم في جوانب مختلفة من أوجه حياة الناس ، كعلاج المرضى والإشراف على بعض المشاريع التي يحتاج المسلمون لمشرفين متخصصين للإشراف عليها أو تعليم المسلمين ، أو لإصلاح معدات مدنية ومركبات آلية مدنية وعسكرية وغيرها ، بحيث لا يوجد بين المسلمين من له قدرة على ذلك ، فلا يرى بعض العلماء بالاستعانة بهم بأسا ، ومنهم من لا يرى ذلك في هذا ولا في غيره.
وقد وجب التنبيه لهذا ، لأنه قد انتشر في أوساط المسلمين أن الدين لا يحرم الاستعانة بغير المسلمين بما يشمل القتال الداخلي بينهم ، فقد يستعين المتمردون على الأنظمة حين يعلمون أنه لا قدرة لهم على مواجهتها إلا بالاستعانة بهم فيعمدون إلى مخالفة نصوص الشريعة في هذا ، فضلا عن مخالفتهم في عزل الحاكم الذي لا تعجبهم قراراته ، فلهذا وجب التنبيه لهذا الخلط في الفهم ، وذلك الخطإ في الحكم ، إن ما أراده العلماء قديما وما يريده بعض العلماء اليوم متغايران ، أما الاستعانة بهم في مختلف المجالات فللقول بجوازه محل ، أما للقتال ضد الحاكم فلا.
وحين يبتلى الناس بحاكم كفر كفرا غير صريح ، أو كان فاسقا أو ظالما جائرا ، حتى ضاقوا به ذرعا ، فهل يجوز لهم خلعه والاستعانة على ذلك بغير المسلمين ؟ الجواب أن عزله لما ذكر محرم إلا مع الأمن من وقوع ظلم وفتنة وقطيعة بينهم ، وأما الاستعانة على عزل حاكم مسلم بغير المسلمين فلا يجوز إطلاقا وبأية صورة ، وكل من استعان بهم أو رضي بذلك فهو عاص ، وكل مسلم أصيب في جسمه ، أو ماله ، أو في حالته النفسية ، سيؤخذ من حسنات كل من أتى بهم أو شجع عليه أو رضي به لأولئك المتضررين كلهم ، مهما كانت أعمارهم وكثرت أعدادهم.
وهناك سابقة في تاريخنا الإسلامي لهذا ، توضح حرمة الاستعانة بهم ، وأكثر منه ، ففي المعيار لأحمد الونشريسيي تحت عنوان : حكم الشرع فيمن نبذ بيعة الإمام ، جاء ما يلي :
وسئل فقهاء الأندلس بما نصه : سيدي ، رضي الله عنكم وأدام النفع بكم ، جوابكم في عصابة من قواد الأندلس وفرسانها نبذوا بيعة مولانا أبي الحسن نصره الله ، وخرجوا عن طاعته ، وقاموا بدعوة ابنه ، ودعوا الناس إلى بيعته وطاوعهم على ذلك من شاء الله تعالى إلى أن وقعت كائنة اللسانة وفقد فيها جملة منهم وأسر الأمير وانجلى من سلم منهم عن الحضرة ، فلجأوا إلى صاحب قشتالة ( دمره الله ) مستنصرين به ومعتصمين بحبل جواره ، فواطؤوه على شروط التزموها إليه ، ووعدهم بتسريح الأمير المذكور ، للخروج به لأرض المسلمين ، وعقد له صلحا على ما طاع له من البلاد ولا خفاء بما هو قصد الكافر ( قصمه الله ) في هذا الذي فعل ، فلكم الفضل في الجواب عن فعلهم ؛ أولا : هل كان له متمسك من الشرع ، أو إنما كان بمحض عصيان الله تعالى ، وخروج عن طاعته وطاعة رسوله ؟ وإن قدر الله بخروجهم من أرض النصارى مُصِرِّينَ على ما كانوا عليه من التعصب على الفتنة والخلاف ، فهل يحل لأحد من المسلمين مساعدتهم على ذلك والأخذ معهم فيه ؟ وهل يحل لأهل مدينة من المدن أو حصن من الحصون أن يؤويهم ؟ وما حكم الله فيمن آواهم وأعانهم وانتظم في سَنَنِهم ، أو مال بقلبه أو قوله أو فعله إليهم ؟ بينوا لنا ذلك بيانا شافيا ، ليستضاء بنوره ، ويهتدى بهديه ، والله يبقي بركتكم ، ويعلي في أعلام العلماء درجتكم ؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجابوا بما نصه : بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله ؛ صدرت الفتيا من السادات العلماء ، الْجِلَّة الأعلام ، هداة الأنام ومصابيح الظلام ، بحضرة العَلِيَّة غرناطة (حرسها الله) على السؤال فوقه ، وهم السيد : البركة المفتي أبو على المَوَّاق ، والسيد قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن الأزرق ، والسيد المفتي أبو الحسن علي بن داود والسيد المفتي أبو عبد الله محمد الجَعْدَالَة ، والسيد الخطيب أبو عبد الله محمد الفخَّار ، والسيد الشيخ الحاج أبو الحسن علي القَلْصَادِي ، والسيد الشيخ أبو حامد بن الحسن ، والسيد القاضي أبو عبد الله محمد بن سَرْحُونَة والسيد الخطيب أبو عبد الله محمد المِشْدَالِي ، والسيد الخطيب أبو محمد عبد الله الزُّلَيْجِي ، والسيد الخطيب أبو محمد عبد الله الحَذَّام ، والأستاذ الشيخ الحاج أبو جعفر أحمد بن عبد الجليل ، والأستاذ أبو عبد الله محمد بن فتح ، والقاضي أبو عبد الله محمد بن عبد البر ، والأستاذ أبو جعفر محمد البَقَنِي ؛ أبقى الله بركتهم ، وحفظ في درجة الأعلام رتبتهم : بأن خلع القوم المسؤول عنهم لبيعة مولانا أبي الحسن نصره الله ، وقيامهم بدعوة ابنه ليس له متمسك من دين الله ، وإنما هو محض عصيان ، وخروج عن طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ارتكبوه بذلك من وجوهن المفاسد التي لا يرضى الله بها ، من شق عصا الإسلام في هذا الوطن الغريب ، وتفريق أمره بعدما كان مجتمعا وإيقاد نار الفتنة وإلقاء العداوة والبغضاء بسببها في قلوب المسلمين ، وإفساد ذات البين ، التي قال فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام : " إنما هي الحالقة " مع ما في ذلك من توهين المسلمين ، وإطماع العدو الكافر في استئصال بيضتهم ، واستباحة حريمهم ، وكل ذلك محرم بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع العلماء ، إلى غير ذلك من وجوه المعاطب التي لا تخفى.
وإن ركونهم إلى الكفار واستنصارهم بهم ، لا يخفى أنهم داخلون به في وعيد قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " وقال سبحانه في الآية الأخرى : " وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ " وإن تجديد بيعتهم للأمير المأسور إصرار على ما ذكر من المعاصي والمحرمات ، وتأكيد لما ارتكبوه من الجرائم والسيئات ؛ فمن آواهم أو أعانهم بقول أو فعل ، فهو معين على معصية الله تعالى ، ومخالف لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن هَوَى فعلَهم أو أَحَبَّ ظهورَهم ، فقد أحبّ أن يُعْصَى اللهُ في أرضه بأعظم العصيان ، هذا ما داموا مصرين على فعلهم ، فإن تابوا ورجعوا عما هم عليه من الشقاق والخلاف فالواجب على المسلمين قبولهم ، لأن الله تعالى قال : " فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ".
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ، وأن يقينا شر نفوسنا ، وأن يصلح ذات بيننا إنه ولي ذلك والقادر عليه " وكتب عنهم من الجواب على السؤال المنبّه عليه ، وأنهم قائلون به ، وصادر عنهم ، ولا خفاء بمعرفتهم ، وهم بحال كمال الإشهاد ؛ قيّد بذلك شهادته في أواسط شهر رمضان المعظم ، عام ثمانية وثمانين وثمانمائة ، عرّفنا الله خيره.
إن هذه الفتوى من عدد من علماء الأندلس تنص صراحة على تحريم عدة أمور بشأن اقتتال المسلمين إذا أرادوا عزل الحاكم بالقوة ، أولى تلك المحرمات : الخروج على الحاكم ، ونزع يدهم من طاعته ، ثانيتها : عزله بقوة السلاح ، ثالثتها : الاستعانة عليه بغير المسلمين ، رابعتها : بيعة غيره من الخارجين عليه كبديل عنه مؤقتا أو دائما ، خامستها : ميل البعض لفعلهم أو الرضى عنه أو الإعجاب به ؛ سادستها : محبة غلبتهم للحاكم المسلم ، سابعتها : إيواء من يتحركون هنا وهناك للتلاقي وترتيب التحركات ضده ، ثامنتها : مدّ يَدِ العون والمساعدة للخارجين ولمن يعينهم ، بالغذاء ، أو الوقود ، أو الدواء ، أو العلاج ، أو أي شكل من أشكال الإعانة.
الخلاصة 19
أن استعانة من يريدون عزل حاكم مسلم لم يرتد ردة صريحة بغير المسلمين للتغلب عليه حرام ، فالدليل صريح في حرمة عزله بالقوة ، وفي الاستعانة على ذلك بغير المسلمين ، حذرا من فتنة وقطيعة ، وإعانتهم على ذلك العمل حرام أيضا ، ويجب على مسلم العمل على تقويض جهود الخارجين وتضييق الخناق عليهم وفساد بعض الأنظمة لا يمنح ترخيصا بعزلها بالقوة إلا عند الأمن من الفتنة ومع الإبقاء على التماسك الاجتماعي . وعلى الألفة والأخوّة بين المسلمين.
خاتمة في بيان الضوابط :
إن حقوق الناس على الحكومة تتمثل في قيامها بما فيه مصلحة المسلمين ، ودفع ما فيه مشقة وضرر عليهم ، وأنه إذا اتخذت قرارات فيها مشقة عليهم فلهم مطالبتها بإلغاء تلك التشريعات ، ولا تجبر على ذلك ، وللناس إسقاطها إن تيقنوا أنه لن تترتب عليه فتن وقطيعة بينهم ، وإلا فلا ؛ وأنه إذا كان بعض أفرادها فاسقا ظاهر الفسق فالواجب نهيه عن ذلك ، فإن لم ينفع ذلك معهم وأمكن عزلهم دون إراقة دماء وقطيعة فلهم ذلك ، وإلا فلا ، وأنه إذا كان منهم من يستخف بالرسول والصحابة والعلماء ، كحال بعض الأعراب في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، الذين وصفهم الله فقال : " أكثرهم لا يعقلون " فللناس الهجرة من تلك البلاد ، أو عزلهم عند الأمن من الفتنة والقطيعة ، وإلا فلا ؛ وأنه إذا استبدت الحكومة بالمال العام فللناس مطالبتهم بحقهم فيه ، أو الصبر على ذلك ، أو مغادرة القطر ، أما الإسقاط لما تقدم فلا يجوز شرعا إن أسفر عن الدماء والقطيعة ؛ وأنه لا يجوز خلعها بالقوة المسلحة إلا إذا ارتدت ردة صريحة متفقا عليها ، بعد بيان ذلك لها بيانا لا لبس فيه ، وكل ما سوى ذلك من الذرائع لا تبيح العزل بالقوة.
ومن حقوق الحكومة على الناس السمع والطاعة فيما يعجبهم من قراراتها وما لا يعجبهم ، سواء كان مأمورا به أم لا، وأنه لا يجوز لهم فعل شيء منعت منه ، سواء كان منهيا عنه أم لا ، وسواء كانوا ينظرون إليه على أنه من مهمات مجتمع العصر الحديث أم لا ؛ فهي التي ستحاسب أمام الله على كل قراراتها وتشريعاتها.
مواقف العلماء المعاصرين من الحكام ومن قضايا الأمة
إن العلماء منذ عدة قرون تخلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم ، وكان لذلك أثرا سلبيا على المسلمين أجمعين ، ثم بدا لهم مؤخرا أن يلعبوا دور الحاكم من وراء الستائر ، فلما بدأ ما يسمى الربيع العربي اغتنم بعضهم هذه الفرصة وتخلوا عن الضوابط الشرعية لعزل الحكام لأنها لم توصلهم لسدة الرئاسة ، فعلى الرغم من أن الأنظمة الحاكمة في مجتمعاتنا لم تغير أسلوب الحكم تغييرا جوهريا خلال العقود التي تلت حقبة الاستعمار ، وعلى الرغم من أنها كانت تحكمنا بطريقة لا تتفق مع تعاليم الإسلام ، ولا مع ما يرغب الناس فيه ، وعلى الرغم من أنه قد ظلت تشريعات المجتمعات كما كانت عليه في تلك الحقبة السوداء من تاريخنا ، فإن أكثر العلماء ظلوا صامتين صمت أهل القبور ، ولم يؤدوا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح للأئمة ، وهذا تقصير منهم في هذا الشأن أورثنا بلايا لا قِبَل لنا بها ، وفيه معجزة نبوية يقول فيها الرسول عليه الصلاة والسلام : " لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن عليكم شراركم ، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم " رواه الطبراني في المعجم الأوسط.
وما ذكر في الحديث قد وقع فعلا ، فالمنكر وقع من بعضنا ، ولم يقم أحد بما أمر الله به من النهي عنه ؛ وأهل العلم والصلاح الذين تقاعسوا عما أمرهم الدين به من النهي عن المنكر افترقوا فريقين ، فريق هاب مواجهة الأشرار من الحكام وغيرهم وخافهم ، ثم ما لبث ذلك الشعور أن تحول إلى حقد أعمى على أولائك الحكام ؛ وفريق تملقهم وبارك ظلمهم ؛ ويشترك الفريقان في أنهما لم يؤديا ما عليهما ، هذا أولا ؛ ثانيا : لقد نتج عن ذلك ما نطق به الحديث ، فسلط الله علينا شرارنا ، فلم يستجب الله دعاء خيارنا ، لأنهم ضيعوا تلك الفريضة.
وهذا الصمت المريب الذي قضوه عشرات السنين أدخلهم في سبات عميق ، ثم استيقظوا مؤخرا قائلين إن الحكام يجب إقصاؤهم ، فالمسلمون متخلفون ، وقد وقعوا في قبضة حكام مستبدين فاسدين ، ولا مناص من خلعهم ، بغض النظر عن الدماء التي ستراق من أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، فساهموا في دفع المسلمين لارتكاب كبيرة من الكبائر ، بتفكير متسرع أفضى إلى عدم المبالاة بالفتن والمظالم التي ستترتب على إطلاق اليد للآحاد في أطراف البلاد أن يشتركوا في استعمال القوة لخلع الحكام ، فآلت حال بعض المجتمعات المسلمة إلى عداوة وأحقاد ، وحملة اغتيالات متبادلة ، لن تتوقف في المستقبل المنظور ؛ وأهملوا مواجهتهم بظلمهم ، الذي يتراوح بين الوجوب مع ظن السلامة وبين إباحته إن ظنوا لحاقه ، فإن فعلوه فهو أفضل ومن مات منهم فهو شهيد ، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " رواه الترمذي.
واتخاذ خطوات تحد من ظلم أية حكومة كمطالبتها بوقفه ، أو لتحقيق العدل مرخص فيها شرعا ، أما إسقاطها لأنها جائرة فلا ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بعزل السلطان الجائر ، بل جعل أعظم الجهاد كلمة عدل عنده وحث على مواجهته ؛ ومن يواجهه ويموت بسبب ذلك فمرتبته من أعلى مراتب الشهداء ، لما روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قال إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله " وليس المراد بقوله : " أمره ونهاه " أن يكون الرجل هو الذي يتحكم في السلطان ، فذلك يجعل الحاكم محكوما والمحكوم حاكما ، وهذا غير مقصود يقينا ، بل إذا خالف نصا شرعيا وقام من يعلم ذلك بأمره بالتمسك بالنص فقتله ، فهو في هذه الحال شهيد.
وكما هو واضح من حديث : " إن من أعظم الجهاد .... " أن من خرج يواجه سلطانا ظالما فطلب منه ترك الظلم فهو مجاهد ، بل من أعظم المجاهدين ، ولو مات فهو شهيد ، وهنا يرد السؤال التالي : ما حكم من مات وهو يطلب منه ترك المنصب ؟ والجواب أنه إذا أفضى طلبه إلى إراقة الدماء فهو عاص وليس مجاهدا ، ولو مات فليس شهيدا ، لأنه لم يطلب من الظالم وضع حد للظلم كما جاء في الحديث ، بل طلب مطلبا آخر لم يؤمر به.
والذي يؤكد صحة هذا الفهم عمل أخيار الصحابة رضي الله عنهم جميعا ، فهذا أبو بكر الصديق قال : " فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني " أرأيت كيف أنه لم يقل : وإن أسأت فاعزلوني ؟ كما أن عمر بن الخطاب قال : " إن رأيتم فيّ اعوجاجا فقوّموني " فأجابه بعضهم : " إن رأينا فيك اعوجاجا قومناه بسيوفنا " ولم يقل : لو رأينا فيك اعوجاجا عزلناك ، كما يريد البعض اليوم.
وبعض المفكرين وعلماء المسلمين زاد الطين بلة فتركوا النهي عن المنكر واتجهوا بدلا عن ذلك لتكوين أحزاب سياسية للوصول للحكم ، ليطبقوا الشريعة في أقطارهم حسب رؤيتهم ، فردت بعض الحكومات بمنعهم من تكوين الأحزاب ، فلجأوا للعمل سرا ( كأنّ تكوين تلك الأحزاب فريضة من فرائض الإسلام !! ) فلاحقتهم السلطات وحاكمتهم ، وحكمت على بعضهم بالإعدام أو بالسجن سنوات طويلة ، وظن هؤلاء الإسلاميون أن مات منهم شهيد ، وما قضوه من سنوات في المعتقلات هو في ميزان الحسنات ، وهذا نتيجة طبيعية لعاطفة دينية غير مبنية على أسس علمية ، فإن تكوين الأحزاب ليس فريضة بل مباح ، وهو ممنوع في بعض الأقطار ، فإذا منعت منه أية حكومة فلا يجوز الإقدام عليه ، وعزل الحكام بالقوة محرم ولو كان لإقامة دولة الإسلام حسب فهم أصحابه ، إذا لم يأمنوا وقوع الظلم والفتنة ؛ وهذا مكمن الخطإ القاتل لكافة ذوي الاتجاه الإسلامي من الإخوانيين ، والسلفيين الجهاديين ، وأتباع القاعدة وغيرهم ، فليس من مات في تلك المعتقلات منهم أو من غيرهم شهيدا ، ولا ما قضوه من سنوات في السجن في ميزان حسناتهم ، إن الأمر بخلاف هذا ، فالميت والسجين قد جنى كل منهما على نفسه عندما فعل ما نهى عنه الرسول من مخالفة الحاكم بعدم تكوين أحزاب ، ومن المنازعة في الحكم.
إنهم عصاة لأنهم اشتركوا في عمل تسبب في موتهم أو سجنهم وضربهم وإيذائهم ، وليس ذلك امتثالا لأي أمر من أوامر الله ورسوله ، بل رغبة في تطبيق رؤيتهم لتسيير مجتمعهم ، وهذا غير مطلوب شرعا ، فلا ثواب لمن فعله أو مات في سبيله ، والواجب عليهم إن كانت لهم نية صادقة أن لا يخرجوا من مظلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منذ أن رأوا أول منكر صدر من هذا النظام أو ذاك ، بهذا جاء الحديث النبوي : " من رآى منكم منكرا فليغيره ..... هل تجد فيه إشارة للمسلم أن يترك هذا المبدأ ويسكت سنوات وسنوات ثم يطيح بالحكم ليطبق الشريعة ؟ " لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا " رأيتم المنكر ولم تغيروه ، وكنتم تخططون للوصول للحكم لكي تمنعوها ، حسنا ، ستلقون الله ويسألكم أين أنتم من تلك المنكرات ؟ إن قلتم أردنا أن نصل للمنصب ثم نغير ، سيسألكم من أمركم بالعمل على الوصول للمنصب ثم التغيير ؟ هل بلغكم مثل هذا عن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ؟ هل وجدتم هذا في كتاب الله ؟ ألا إن ألحقيقة أن هؤلاء تركوا الهدى النبوي واتبعوا أهواءهم ، فزاد عدد من يفعلون المنكرات ، وصعب علاج الأمر على الجميع ، إنه لا مكان للدين عند هؤلاء فيما يبدو إلا في اللسان ، أما الانقياد لتعاليم الإسلام فغير وارد ، ولكنهم قوم يكذبون على أنفسهم ويظنون أن كذبهم ينطلي على غيرهم ؛ إنهم طلاب مناصب ليس إلا ؛ فليعلموا أنه سيعاقبون على أمرين : أمر محتمل وأمر لا مرية فيه ، فأما المحتمل فهو قبولهم بما كان من منكر مخالف للنصوص في مجتمعاتهم ، لأن هذا ليس من المنكر الذي يجب تغييره ، بل هو رأي يقابله رأي ، ولا ندري أيهما هو الحق ، وأما المقطوع به فهو الاقتتال من أجل الدنيا مع التلبس بلباس الدين ، فهم مزورون يظهرون مالا يبطنون.
ولمّا عصفت الرياح بتغيير تلك الأنظمة التي أرسلها كبار الساسة الغربيون ، ولاح في الأفق نهاية هذه الأنظمة بدأت محركات بعض علمائنا تجدف في اتجاه التيار بتزيين الخروج على حكام حكموا عدة سنين ، ولم يغيروا من مسار الأنظمة في إدارة البلدان منذ خروج المستعمر حتى يومنا هذا ، ثم أنشأ العلماء ينادون الآن : أسقطوهم لعلكم تفلحون ! إن هذا يدل على أنهم إنما نادوا بهذا في هذا الوقت لأن الرياح هبت به.
ولكي يكون لهم قبول عند الناس نقلوا من كلام علمائنا الأقدمين كلاما مجتزءا أخرجوه من سياقه العام ؛ كالذي ردده أحد علماء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في نقله عن النووي ما ظنه لصالح الثوار وهو : " فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم ، وقولوا بالحق حيثما كنتم " وتوقف هنا ، ولم يزد عليه قوله : " وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين " فخان الأمانة العلمية ، وحذف هذه الزيادة على ما فيها من أهمية ، إنها مهمة لفهم رأي هذا العالم الجليل في المسألة بصورة مكتملة ، ولمعرفة كيفية التعامل معه إن كان سيئ الخلق والسمعة.
وأحيانا ينقلون ما يوهم السامع أنه دليل لإباحة هذا الخروج المحرم ، كالاستدلال باستعانة النبي عليه الصلاة والسلام بكفار خزاعة ، على الاستعانة بغير المسلمين ضد الأنظمة ؛ إنه تضليل للرأي العام ، فاستعانته بخزاعة كانت في مواجهة قريش ، وهم كفرة ، والقيادة بيده لا بيدهم ، أما الاستعانة اليوم ففي مواجهة قوات الحاكم المؤمنة ، والقيادة ليست بيد المسلمين بل بيد الكافرين ، فالاستدلال بما ذكر خطأ يقينا.
وكذلك الاستدلال بما جاء أن الرسول استعار من صفوان بن أمية وهو كافر سلاحه يوم حنين ، وأعطاه مقابل ذلك مالا ، وأنهم لو أعطوا من استعانوا بهم مالا فلا إثم عليهم ، وهذا تزييف للحقيقة ، فالرسول هو الذي استعمل ذلك السلاح ولم يستعمله صفوان ، وما حدث الآن أن غير المسلمين هم من استعملوه ، فضلا عن أنه صلى الله عليه وسلم استعمله في مواجهة كفار هوازن ومن حالفهم ، فلا يصح الاستدلال به إلا في دفع مال لكافر أعان المسلمين على قوم كافرين ، وهذا أمر لم يقع ، فالاستدلال به خطأ كبير ، وإثمه عظيم.
لقد كان لزاما عليهم شرعا أن يقولوا الحق ، لا يخشون في الله لوم الحكام وأعوانهم ، ولا الثوار وأنصارهم من دول الغرب التي لم تأت إلا لتدمير بلاد المسلمين في قالب دعم طلاب الحرية ، الذين خرجوا لإسقاط الأنظمة لا لطلب الحرية ؛ وربما كانت شدة خصومة بعض العلماء للقذافي والأسد وغيرهما ، ورغبتهم في تولي مناصب مهمة فيما بعد عهدهم هو الحامل على الفتاوى المضللة المخالفة لما اتفق عليه العلماء من حرمة الخروج على من لم يكفر كفرا صريحا ؛ هذه نماذج للتضليل العلمي الذي اقترفه عدد من العلماء الذين تملقوا كل أحد حتى العامة الرعاع.
وبالعودة لمراجعة مواقف العلماء إزاء الأحداث التي هبت رياحها في السنوات الأخيرة نجدها متباينة ، وصدرت في الأعوام الأخيرة فتاوى رددها فريقان من الشيوخ ، شيوخ السلاطين ، وشيوخ الرعاع ونخبة السياسيين ، فأما شيوخ السلاطين فما فتئوا يحثون الناس على طاعة الحاكم والصبر على ما يصدر منه ، ولو كان مستبدا ، ونظامه فاسدا ، مؤكدين على حرمة عزله من منصبه بأية طريقة ، لما رواه حذيفة رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر ؟ قال : " نعم " قلت هل من وراء ذلك الشر خير ؟ قال : " نعم " قلت فهل من وراء ذلك الخير شر ؟ قال : " نعم " قلت كيف ؟ قال : " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس " ــ قال ــ قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال عليه الصلاة والسلام : " تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع ".
فطفقوا يقرعون أسماع الناس بهذا الحديث ، ويبدئون ويعيدون في شرحه ، مؤكدين على وجوب السمع والطاعة ، والصبر على ظلم الحكام ، واحتمال الفساد والتخلف والاستبداد ، وخطؤهم واضح وضوح الشمس ، فلم يأمر الإسلام بالصبر فقط ، بل قدم حلولا أخرى لم يذكروها ، أحدها العزل وفق ضوابط محددة ، وسيأتي الكلام عما يجب في ظل الدولة الحديثة.
وحديث : " وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك " هو من أكثر الأحاديث التي تناولها علماء السلاطين والأمراء ، وشرْحُهم له يدل على جهالة علمية مطبقة ، أو تملق كبير للحكام ، فلو أراد النبي أن يصبر المسلمون ( كلهم ) على ظلم الحكام لقال : وإن ضربوا ظهوركم وأخذوا أموالكم ... أما صيغته هذه فتبين حكم وقوع ظلم محدود من حاكم على مسلم ؛ وموضوع البحث عمن اشتد جوره وشمل كثيرا من المسلمين وتفاقم ظلمه ، وانتشر في عصره الفساد ، واشتهر بالاستبداد ؛ ومن هنا سخر البعض عامة ومثقفين من علماء السلاطين هؤلاء.
وإزاءهم كان هناك علماء نخبة السياسيين والرعاع الغوغائيين الذين ما فتئوا يدقون طبول حرب ضروس بين المسلمين ، يشجعون العامة على الخروج لعزل الحكام مهما كان الثمن ، وقد أخطؤوا في هذا التشجيع خطأ قاتلا ، فالحكام لم يرتدوا ردة صريحة حتى يباح عزلهم ، بل أخلوا ببعض الأوامر والنواهي الشرعية ، بل ربما فعل بعضهم ما يمكن أن يعتبر ردة عند البعض فيجوز عزله وفق ضابط معين يأتي الكلام عليه ، ولم يخالفها البعض ، فلا يجوز عزله بحال.
والعجب أن عددا من الفقهاء لم يبنوا رأيهم على ما تقدم من احتمال كفر الحكام ، بل رددوا كلام الساسة الخبثاء هواة الحكم ، من قبيل تبني الحكام سياسة داخلية سيئة ، واستشراء الفساد في عدة قطاعات ، واستبداد المسئولين بكل شيء ، وركزوا على ردود أفعال الحكام بالقوة المسلحة على من خرجوا لعزلهم ، فأفتوا بأنهم فقدوا شرعيتهم عندما وجهوا الرصاص نحو صدور شعوبهم دون توضيح أية شرعية يقصدونها ، أهي شرعية دينية أم غيرها ؟ فإن كانت الشرعية الدينية فقد أخطأوا يقينا ، وإن أرادوا شرعية عالم اليوم فبماذا سيجيبون ربهم يوم القيامة وقد خالفوا ما جاء به رسوله في هذه المسألة ؟ إنهم يعلمون أن المبرر الوحيد الذي أذن الرسول فيه لخلع الحاكم المسلم هو الردة الصريحة ، وهذا أمر لم يدعوا للخروج لأجله.
لقد كان جديرا بأولي العلم هؤلاء الترفع عن التشجيع على الاقتتال لهذه الأسباب ، لمخالفتها ما يبيحه شرعا ، ولواقع الحال ، ولما قاله الفقهاء ، فأما مخالفتها لما يبيحه شرعا فإن الحكام لم يرتدوا صراحة ، ولا أقيمت الحجة لله على أي منهم ، وهذا أمر في غاية الأهمية لاستباحة دماء المسلمين ، إنه لو تم إسقاطهم دون اقتتال ربما أمكن القول بجوازه ، أما بهذه الصورة فلا.
ومن مخالفتها لواقع الحال : أن هذه الأنظمة لا توجه الرصاص لصدور شعوبها ، بل لمن خرجوا لخلعها ، وهذا واجب عليها شرعا إجماعا ، وخروج الناس لإسقاطها محرم ، إذ هو من أبرز مظاهر نزع اليد من الطاعة ، وذلك يوجب معاملتهم بوصفهم بغاة يجب قتالهم كأي بغاة آخرين.
وأما مخالفتهم لما قاله أهل العم قديما فيتمثل فيما نصوا عليه من وجوب قتال البغاة ، بل إن بعضهم صرح بعدم جواز أن يترك الحاكم البلاد لمن يريدون خلعه ، وأن الواجب عليه مواجهتهم دون هوادة ، فإن الله كما أمر بقتال الكفار فإنه قد أمر بقتال البغاة ، وكما أن قتال الكفار لا يجوز التخلي عنه فكذلك قتال البغاة لا يجوز التخلي عنه ؛ وستأتي نصوصهم في هذا ، وقد خالفهم هؤلاء العلماء ، وقالوا بحرمة توجيه الرصاص للخارجين ، وأن على الحاكم أن يترك المنصب ويغادر البلاد !.
وأمر آخر تجدر الإشارة إليه لتبيين مدى فظاعة فتوى هؤلاء العلماء ، فكأنّهم لا يعيشون على كوكب الأرض ، ولم يعلموا ولم يسمعوا بما جرى ويجري في العراق من اقتتال ودمار وخراب وأحقاد بين أناس كانوا بالأمس القريب على مودة وتواصل.
وفيما يبدو كانوا يهدفون من وراء دعم الثورات أن يكونوا هم المسيّرين الفعليين للحكم ، وهم الحكام الحقيقيون من وراء الحُجُب والكواليس ، فأية حكومة لا تكون في قبضتهم يشنون على رئيسها وأعضائها هجمات حتى يسقطوها إن استطاعوا ، وهم بذلك سيكونون مصدر إزعاج للسياسيين في مختلف دولنا.
وهذا سلوك مشين منهم مخالف لتعاليم الإسلام ؛ فأما أنه مشين فلأنهم يظهرون أمام الناس بمظهر المصلح المنقذ للمجتمع ، وهم في الواقع يريدون أن يحكموا من وراء الظل ؛ وأما أنه مخالف لتعاليم الإسلام فإن نصوصه لا تعطي الفقهاء الحق في الهيمنة على السياسيين ، إنه ينبغي أن تكون لتلك النخبة الحرية التامة فيما يرون فيه مصلحة ، سواء حظيت قراراتهم بإعجاب الفقهاء أم لا ، نعم ، ليس شرطا أن تنال رضاهم ، بل لهم في إطار جلب المصالح ودرء المفاسد أن يتصرفوا كما يريدون ، دون أن يكونوا ملزمين بالرجوع لهذا العالم أو ذاك.
وهيمنة العلماء المتخصصين في علوم أي دين يقود المجتمع للتخلف ، وهذا أمر عاشته أوروبا قرونا طويلة ، حيث كانت طبقة رجال الدين هي المتحكمة في رقاب العباد ، فشدتهم إلى الخلف بدل أن تدفعهم إلى الأمام ، إلى أن ارتفعت عقيرتهم وصاحوا بأعلى صوتهم مرددين : اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس !! إنه لا مكان في الإسلام لرجال الدين ، ودور الفقهاء إنما يبرز إذا خالف الحاكم النصوص وينحصر في تنبيه له ، تطبيقا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإن لم يسمعوا لهم فليهاجروا كما فعل عبادة وأبو الدرداء وغيرهما ، أما التحكم في الساسة فلا.
ومن حماقة هؤلاء العلماء أنهم شاركوا (من حيث لا يدرون) في تطبيق فكرة غربية تهدف إلى إعادة تقسيم بلداننا تقسيما جديدا ، بتقسيم المقسّم وتجزئة المجزّء ؛ وإعادة التقسيم هذه قد أعلنت عنها وزيرة خارجية أمريكا يوما ما ( كوندا ليزارايس ) في شهر مارس عام 2006 من بيروت ، وكانت الخطة في البداية تهدف إلى وضع خرائط جديدة للبلدان الحالية ، ورسمت تلك الخرائط فعلا وعرضت على الفضائيات ، وكانت الولايات المتحدة يومها هي القطب الوحيد الذي يرسم ويدير السياسة العالمية ، ولكن الفرصة ضاعت عليهم بعد أن استيقظ الدّبّ الروسي ، وشكّل مع العملاق النائم ( الصين ) وعدة دول أخرى منظومة دولية جديدة مناوئة لسياسة أمريكا ، وخرج العالم من القطب الواحد إلى الأقطاب المتعددة ، فنتج عنه عزوف ساسة الغرب عن التقسيم بالمعنى القريب ، فالعالم لم يعد في قبضتهم ، وإعادة التقسيم تتطلب موافقة دولية عليها ، وهذا لا يتأتى إلا بصعوبة ، فلما عجزوا غيّروا طريقتهم ، ولم يلغوا فكرتهم.
إن الساسة الغربيين ليسوا حمقى كما هو الحال في مشرقنا ، ولقد أصابت هذه الحماقة بعض فقهائنا عفا الله عنهم ، فعندما تبنى الساسة الغربيون مبدأ التفجير الداخلي للأقطار التي أردوا تقسيمها هرع بعض فقهائنا للمشاركة في تحقيق هذا الهدف الغربي وهم لا يشعرون !! وظهروا بمظهر من يريد تطبيق أحكام الدين على المسلمين ، فلماذا لماذا لم يطلبوا بعد خروج المستعمر إلغاء النصوص القانونية المخالفة لتعاليم الإسلام ؟ ولماذا لم يطلبوا من حكوماتهم اتباع تعاليم ديننا التي تمنع من الفساد والتخلف والاستبداد ؟ ولماذا أبقوا على مخالفة عقوبات جرائم الحدود ؟ ولماذا لم يطلبوا إلغاء المعاملات الربوية في المصارف ؟ لماذا سكتوا عشرات السنين ، وتحركوا مع حركة الجدد من المستعمرين ؟ إن هذا ينبئ عن أنهم غير حريصين على تطبيق تعاليم الإسلام حقا ، فالحكومات لم تغير قوانينها الآن ، ولا ارتد القذافي اليوم ، ولا اعتنق بشار الأسد النصيرية منذ أعوام ، لا جديد في أمر هؤلاء ، سواء في البعد عن الشريعة أو في فشلهم في إدارة الدولة ، لماذا صمت العلماء حتى اليوم ؟.
إن الغرب لما كان الأمر الذي يهمهم هو حماية إسرائيل ، وتدفق النفط والغاز الذي يعبدونه لا يشركون به شيئا ، كما يعبد المسلمون الله لا يشركون به شيئا ، حرص على تقسيم دول عربية مختلفة في كل من شمال أفريقيا ، ودول جنوب غرب آسيا ، فأرادوا تقسيم مصر ، وليبيا ، والسودان ، واليمن ، والسعودية ، وسوريا ، والعراق ، لينتج عن ذلك وجود دول صغيرة مساحة إسرائيل أكبر من مساحة كثير منها ؛ ولكنها مع صغرها ربما تظل متفقة على العداء لإسرائيل وعلى علاقة حسنة فيما بينها ، وربما تمكنت من إعادة توحيد نفسها فتصبح أكبر مساحة وأكثر قوة من إسرائيل ، وهذا سيشكل خطرا عليها ولو بعد سنين ، فلهذا شرعوا في انتهاج نهج جديد للتقسيم ، وذلك بالتفجير والتفتيت الداخلي ، بخلق خصومة بين السكان لا يلبث أن يتحول إلى ضغائن وأحقاد لا نهاية لها ، وهذا أفضل بكثير لإسرائيل.
فالناس عندما يحقدون على بعضهم ستكون أدنى شرارة كفيلة بعودتهم للقتال في أية لحظة من جديد ، ودوائر الاستخبارات لا يصعب عليها إيقاد تلك الشرارة ، وبهذا يهتم مسلمو كل قطر بالكيد لغيره للتغلب عليه ، ولو بالاستعانة بغير المسلمين ، وينسون فلسطين والمسجد الأقصى ، وهذا من أهم الأهداف عند الغرب ، فخططوا وشرعوا في التنفيذ ، وللأسف أعانهم عدد من الفقهاء وهم لا يعلمون.
ولكي تكون لهؤلاء العلماء مصداقية عند الناس شرعوا يموّهون على العامة بأدلة بعيدة عن الموضوع كحديث : " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " وحديث : " أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، فقام إليه رجل فقال : الصلاة قبل الخطبة ، فقال : قد تُرِك ما هنالك ، فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، ومن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " وحديث كعب بن عجرة قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن تسعة ، خمسة وأربعة ، أحد العددين من العرب والآخر من العجم ، فقال : " اسمعوا ، هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراء ، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض ، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم ، فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض " وحديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة " وحديث : " هل تدرون فيما سخط الله على بني إسرائيل " ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " إن الرجل كان يرى الرجل منهم على معصية فينهاه بعد النهي ثم يلقاه بعد ذلك فيصافحه ويواكله ويشاربه ، كأنه لم يره على معصيته ، حتى كثر ذلك فيهم ، فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر ، ولتأخذنّ على يدي الظالم ، ولتأطرنّه على الحق أطرا ، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعن من قبلكم " واستدلوا كذلك بخروج الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم ، وبخروج بعض أهل العراق على أمرائهم.
وهذه كلها لا تصلح للاستدلال بها ، أما الأحاديث فليست من مسألة عزل ولي الأمر (الحاكم) في شيء ، فأما حديث : " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " الذي رآى بعض العلماء أنه يدل على جهاد الأمراء باليد ، إلا أنه لا يلزم من التغيير باليد عزل الحاكم بالقوة ، وأول من نبّه لهذا الإمام أحمد بن حنبل ، فقد جاء في جامع العلوم والحكم عن الإمام أحمد : " التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح ، فحينئذ جهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات ، مثل أن يريق خمورهم أو يكسر آلات اللهو التي لهم أو نحو ذلك ، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك ، وكل ذلك جائز وليس هو من باب قتالهم ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه ، فإن هذا أكثر ما يخشى منه أن يقتله الأمراء وحده ، وأما الخروج عليهم بالسيف فيخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين ، نعم ، إن خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهله أو جيرانه لم ينبغ له التعرض لهم حينئذ ، لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره ".
أرأيت كيف أنه لو ظن لحاق ضرر بأهله وجيرانه فليس له الإقدام على ذلك ؟ ! إن الطامة الطماء أن علماء الرعاع يعلمون أن الضرر سيلحق ببلاد بأكملها ، ومع يقينهم من ذلك كانوا يحثون الناس على الخروج لقلب الأنظمة ، وليكن ما يكون !.
وأما حديث : " فليغيره بيده " ففيه أمر بتغيير المنكر لا تغيير من يفعل المنكر ، وتغيير المنكر شيء يتقبله العقل السليم ، ولا علاقة له بتغيير الحكام وعزلهم بقوة السلاح ولو أريقت دماء ووقعت فتنة ، من قريب أو بعيد.
وأما حديث : " وليس بوارد عليّ الحوض " فلا علاقة له بمسألتنا كذلك ، فهو يتحدث عمن يتملقون الحكام ، ويعينونهم على ظلمهم ومعاصيهم ومخازيهم ؛ ولذلك مدح من لم يدخل عليهم فقط لا من يعزلهم بالقوة ، فعدم الدخول رسالة إليهم تشير إلى عدم الرضا عنهم ، وأما العزل فأمره مختلف ، وهو محرم.
وأما حديث : " فلا سمع ولا طاعة " فهو مظلوم من الناس ، فقد ربط جهلة المسلمين بينه وبين عزل الحكام ، وظنوا أن عدم السمع والطاعة يعني عزله ، في حين أنه لا علاقة بينهما من قريب ولا من بعيد ، إن ذلك إنما يدل على عدم تنفيذ ذلك الأمر المحرم وعن ترك فريضة من الفرائض ، ولا يدل على عدم الطاعة في غيره.
وأما حديث : " لتأخذن على يد الظالم " فهو في غاية الوضوح في عدم عزل الحاكم الظالم الذي لا يتبع الحق ، وأن المأمور به شرعا هو إجباره على التزام الحق والكف عن الظلم ، وهؤلاء العلماء كأنهم لم يسمعوا به قديما فأهملوا العمل به ؛ فما دعوا إليه مؤخرا مخالف للأدلة ، وعليه : فموقفهم مخالف لها حسب الفهم القديم والحديث.
وأما خروج الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم ، فلا يصح الاستدلال به إلا فيما يشبهه تلك الحالة ، فقد خرجوا لعزله قبل أن يبسط سيطرته على البلاد ، ومن يكون كذلك لو عزله الناس فلن تراق الدماء ، ولن تحدث قطيعة بين المسلمين ، لأنه لا نفوذ له في البلد ، وأيضا فقد بايعا يزيد بالإكراه ، كما تقدم عند الكلام على طريقة الوصول للحكم بالاستخلاف ، ومعلوم أن المكره لا يعتد بعقوده كلها ، بما في ذلك عقد البيعة ؛ وأما ما كان من خروج بعض أهل العراق على الأئمة فلا يحتج به ، بل هو في حاجة للاستدلال له ، فالحكم الشرعي يعتمد على دليل شرعي توفرت فيه الشروط لا على عمل بعض المسلمين ، وعليه ، فكل الأدلة التي استدلوا بها لا وتصلح لذلك.
ولو أن علماء فريقي السلاطين والرعاع تنادوا جميعا لدعوة الناس لعدم تحمل الظلم ، وللخروج لمطالبة الحكومات بوضع حد للفساد ، لا لإسقاط الحكومات ، لكانوا جميعا قوما صالحين ، وإن وقعت الدعوة قبل الخروج فليكن هدفها ما ذكر ، وإن اقتتلوا ووجهت الدعوة بعد ذلك فلتكن على النحو المذكور ، فإن اقتتلوا فليكن أول ما يدعون إليه جميعهم هو وقف إطلاق النار لحقن الدماء ، ووضع خارطة طريق تهدف لتغيير الأوضاع السيئة القائمة بما هو أفضل منها للمسلمين.
إن موقف الإسلام واضح لا لبس فيه حين ينشب اقتتال المسلمين فالواجب أولا وقبل كل شيء وقفه والحد من إراقة الدماء ، والحفاظ على المودة والإخاء بين المسلمين ، ومع هذا فكأنّ علماءنا من الفريقين قوم يجهلون ! لقد كان واجبا عليهم اتباع كلام الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ، خاصة وهم يحثون غيرهم على التمسك بالأدلة الشرعية واتباع المشروع الإسلامي !! فأين هم مما يدعون غيرهم إليه ؟.
وأعمال القتل من أجل الإمارة قديمة في أمتنا ، وكان العلماء يضعون أيديهم على الجراح ويبينون للجاني مقدار جنايته وجرمه ، ومن ذلك ما كان بين عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، وبين مصعب بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما ، حين أراد ابن الزبير أن يثأر ممن قتلوا أخاه عبد الله ، وقد رواها ابن الأثير في : كتاب البداية ، وجاء فيه : " وقال محمد بن يزيد المبرد : سئل القاسم بن محمد عن مصعب فقال : كان نبيلا ، رئيسا ، تقيا ، أنيسا " ثم قال : " وقد تقدم أنه لما ظهر المختار قتل ( مصعب ) من أصحابه ( المختار ) في غداة واحدة خمسة آلاف ، وقيل : سبعة آلاف ، فلما كان بعد ذلك لقي ابن عمر فسلم عليه فلم يعرفه ابن عمر ، لأنه كان قد انْضَرّ في عينيه ، فتعرّف له ، فعرفه ، قال : أنت الذي قتلت في غداة واحدة خمسة آلاف ممن يوحد الله ؟ فاعتذر إليه بأنهم بايعوا المختار ، فقال : أما كان فيهم من هو مستكره ، أو جاهل فينظر حتى يتوب ؟ أرأيت لو أن رجلا جاء إلى غنم الزبير فنحر منها خمسة آلاف في غداة واحدة أما كان مسرفا ؟ قال : بلى ، قال : وهى لا تعبد الله ، ولا تعرفه كما يعرفه الآدمي ، فكيف بمن هو موحد ؟ ثم قال له : يا بنى تمتّعْ من الماء البارد ما استطعت ، وفى رواية أنه قال : له عش ما استطعت ".
لو أن علماء الرعاع خصوم الحكام طلبوا من الناس الخروج لوضع حد للفساد ، وإنهاء الاستبداد وليس للإطاحة بالأنظمة ، لكان ذلك أفضل كثيرا من هذه الفتاوى المدمرة لبلداننا تدمير الأعاصير ، لو انطلقوا في توجيهاتهم من هذا المنطلق لتم القضاء على ما في مجتمعاتنا من تخلف ، ولما وقعت كوارث في الدول التي شهدت حراكا خطط له مجرمون دوليون ، وقد ساهم في تنفيذه علماء مسلمون في : تونس ، ومصر ، وليبيا ، واليمن ، والبحرين ، وسوريا ، ولما سالت الدماء من الطرفين ومن غيرهم من أمة النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، وكان تحركهم مفيدا لهم في الدنيا ومرضيا لله سبحانه ، وستتحقق الأهداف المنشودة ، وكل من ساهم فيها مأجور ؛ كما أن مظاهر التخلف ، والفساد ، والاستبداد ، وغيرها مما يريدون التخلص منها ستختفي من مجتمعاتنا ، ونكون قد حققنا خيري الدنيا والآخرة ، أين المفر أيها العلماء الذين لم تبالوا بالدماء المراقة ( في سبيل التقدم والرقي !! ) سحقا لرقي هذا سُلّمه ، وتقدما هذا معراجه ، ويل لكم من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله التي تعصم دم من قالها وماله وعرضه.
أمَا وقد سارت الأمور في هذا المسار فإن المفتين من الفريقين كليهما آثمون.
فأما 1 المفتون للخروج للإطاحة بالأنظمة فهم مسئولون مباشرة عن كل قطرة دم سالت أو ستسيل ، وعما وقع أو سيقع من إتلاف للممتلكات ، واستهلاك للأسلحة والذخائر ، وترويع للآمنين ، ففي ليبيا ما ذنب من هجّروا من مناطق المشاشية ، وتاورغاء ، والشقيقة وغيرها من ؟ هناك مسنّون ، وأطفال ، ونساء هائمون لا يدرون أين يبيتون ، ولا يعلمون أين سيستقرون ، يعانون الأمراض دون أن يكون لهم طبيب يعالجهم ، ويقاسون من البرد ولا مكان يؤويهم ، سيموتون ويدفنون ثم يبعثون يوم القيامة آخذين بتلابيب من هجّرهم ، ومن تسبب فيه ، ومن لم يبال بأمرهم .
من يظن أنهم منسيون فليعلم أن الله لن ينساهم ، ومن يتوهم أن صفحتهم قد طويت فليعلم أنها ستفتح يوم الدين ، حيث لا تملك نفس لنفس شيئا