إن ظلم أي حاكم مهما بلغت شدته لا يبح عزله بالقوة ، وأما أنه كافر فرأي شاذ لا ينبغي الالتفات إليه ، ولو حكم هؤلاء لن يطبقوا الشريعة كما يرددون ، بل سيطبقون ما فهمه علماؤهم لعدد من الأدلة ، وحرصهم هذا لا يختلف عن حرص بعض الأحناف أو الشافعية على نشر فهم علمائهم لتلك الأدلة ، وما من رأي إلا وهو قابل للرد ، وحال هؤلاء في أمتنا هو أسوأ ممن سواهم من أصحاب الآراء الأخرى ، فالمالكية مثلا يرون أن مذهبهم راجح صحيح ، ولا يحكمون بخطإ من يخالفهم من أصحاب المذاهب ، بل يرون رأيهم مرجوحا ، وهؤلاء يُشَنّعون على المخالف ، في الوقت الذي يقولون فيه إن علماءهم غير معصومين ، إنه من الوهم القول بأن موتاهم شهداء عند ربهم يرزقون ، والأحياء سيطبقون شريعة الله !!.
وهناك فقهاء آخرون يوجهون عدة مجموعات تعمل على إقامة دولة الخلافة الراشدة !! فلم يتوقفوا منذ عدة سنوات عن الحث على العمل الجدّي دون كلل أو ملل لإسقاط النظام الليبي والقول بكفره ، لتأليب الرأي العام عليه ، وكلهم قد نبذوا حديث رسول الله الذي أباح الخروج في حال الكفر الصريح وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، واتبعوا ما قاله علماؤهم في تحديد من يجوز الخروج عليه ومن لا يجوز ، وهؤلاء الحالمون سيظلون يحلمون بإعادة الخلافة حتى قيام الساعة ، فقد روى البخاري عن الزبير بن عدي قال : أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج ، فقال : اصبروا ، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم ، هذا الحديث حسم المسألة ، ومع علمهم به فإنهم يعملون ويحلمون بما يناقضه ، فهل ندع الحمقى يحلمون ؟! قد يؤثر ذلك علينا سلبا.
دخل إذا على الخط : بعض الجهاديين الذين أخذوا العلم من علماء السعودية ، حيث كانت الفتوى بأن القذافي مرتد منتشرة هناك على نطاق واسع ، بسبب الخلاف السياسي بين النظامين ، وهي فتوى غير علمية كما أنه لا مصداقية لهؤلاء العلماء ، لأن بعض حكام اليوم فعل ما حكم العلماء قديما بردة أي حاكم يفعله ومع هذا فأهل العلم والفضل ( هؤلاء ! ) لم يحكموا عليهم بالردة ، بل صدرت الفتوى بردة القذافي لا غير ، كأنه وحده الحاكم المخالف لتعاليم الإسلام ، أما غيره من الملوك والرؤساء والأمراء فهم خلفاء راشدون معاصرون !!.
إنها إذن فتوى من يتبع الهوى لا من يتبع الهدى ، وقد اعتمد عدد من الجهاديين عليها في محاولاتهم خلع القذافي بالقوة عدة مرات ، ما أسفر عن مقتل بعضهم وإلقاء القبض على آخرين فأودعوا في غياهب السجون ، وفي ظروف غامضة مات مئات منهم ، فلما قامت هذه الحرب اشتركوا فيها ليشفوا غيظهم منه ومن رجال أمنه ، هذا ما كان من أمرهم باختصار ، فهل محاولاتهم قلب نظامه بالقوة له مستند شرعي معتمد على أدلة وآراء فقهية صحيحة ؟ الجواب بكل ثقة : لا.
والمعروف عن الليبيين من مختلف المناطق أنهم شعب محافظ ، وربما كان هذا نتيجة طبيعية لما عاشوه في ظل حكم القذافي الذي لم تكن تشريعاته تشجع على الانحلال ، وهذه المحافظة ينبغي أن تجعله شعبا متمسكا بنصوص الشريعة في مسألة الخروج على الحاكم المسلم كما يتمسك بمعرفة حكم غيرها مما يفعله ، لكن غلب عليهم الرأي القائل بأنها جائزة إن لم تكن واجبة ، دون أن يبحثوا ذلك في المصادر التراثية المختلفة ، وواقعهم يتسم بالإصرار على هذا الموقف والهروب إلى لأمام وعدم الاطلاع ؛ ويجب عليهم أن يتذكروا الموت وما بعده من حساب الله على حكم الشروع في عمل أفضى إلى اقتتال المسلمين وتدمير بلادهم ونزع اليد من الطاعة ، ومنازعة من يحكمهم في الحكم ، كان الواجب عليهم معرفة الحكم الشرعي فيها كلها ؛ إلا أن أيا منهم إذا حدثته عن حرمة الخروج على الحاكم يضيق ذرعا ، بل ربما يسجنك .
وليس غريبا أن ترى السجان يصلي الفرائض والنوافل ويسمع الأحاديث الدينية ويظهر الحرص على التمسك بالدين ، حتى إذا فاتحته بأمر الخروج على القذافي اشمأز من الكلام ، وفي أحسن الأحوال يطلب منك الكف عن الحديث على الحكم الشرعي مكتفيا بوجهة نظره في المسألة ، كأنك تتحدث مع إنسان غير مسلم ليس لدينه في القضايا قول فصل وما هو بالهزل ، فإذا أكثرت من الحديث معه تذرع بأن هذا أمر فات أوانه ، متجاهلا أن ساعة الحساب بالنسبة له لم تأت بعد ! وأنها آتية بلا ريب.
ومع تمسك مثل هؤلاء السجانين بالدين فليس غريبا أن يرمي أحدهم أخاه في الدين والوطن برصاص أو يذبحه بسكين ، فيتحول من عابد لله إلى مخلوق متوحش بصورة أسوا من كل التوقعات ، ألا إن وزرهم عظيم وذنبهم كبير ، وأسوأ منهم من أفتوا بإطلاق اليد للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا ، خلافا لما قاله أهل العلم ممن تقدم.
وربما تجد سجانا شيطانا ماردا في صورة إنسان متوحش يسب ذا الجلال والإكرام ، ولا يقيم وزنا لتعاليم الإسلام ، وليس غريبا أن يكون مجرما محكوما عليه في قضايا فسق وفجور وشرب خمور ، ثم شاء القدر أن يكون آمرا ناهيا يضرب ويقتل ويعذب ويعبث ويعربد كما يريد ، دون أن يكون هناك من له القدرة على وضع حد لسلوكه المتوحش ، وهنا يتذكر الإنسان فداحة فتوى المفتين من ليبيا وغيرها في وقوع مثل هذه الطوام.
تقدم أن القذافي ومن معه من ضباط الجيش الليبي والشرطة والمدنيين قلبوا نظام الملك إدريس السنوسي ، وأن ذلك النظام غير شرعي وفق ما قاله أهل الفقه استمدادا مما جاء في الأدلة ، فإطاحتهم به عمل يرضي الله ورسوله لما كان فيه من تشريعات تسمح بالترخيص بالبغاء ، وبيع الخمر ، ولحم الخنزير في مزارع الإيطاليين ، وعلى إنزال عقوبات في جرائم الحدود المنصوص على عقوباتها شرعا بعقوبات غير ما أمر الله به ؛ وكلها تبيح الإطاحة به عند بعض العلماء على الأقل ، فكل من ساهم في الإطاحة بنظام الملك إدريس أو اشترك فيه من المدنيين والعسكريين مأجور بإذن الله ، وما يقال من شرعية ذلك النظام هو بالمعنى القانوني ، لا بالمعنى الفقهي الإسلامي .
وبناء على ما تقدم فإن وصول القذافي لمنصب الحاكم العام في ليبيا ، مهما قيل في اسمه أو في شأنه عمل صحيح شرعا ، والذين أرادوا الإطاحة بنظامه هذه المرة أو في المرات السابقة هم شرعا بغاة عصاة آثمون بدون شك ، وكان آدم الحواز ، وموسى أحمد ومن معهما من مختلف المناطق أقدمهم ، وتكررت المحاولات حتى كان هذا التحرك الذي حظي بغطاء الناتو.
هؤلاء المتمردون عامة ، والجهاديون ( !! ) خاصة ارتكبوا الإثم ثلاث مرات ، مرة في قولهم بكفره ، ومرة في تخطيط وتنفيذ قلب نظامه طيلة فترة حكمه ، ومرة في ملاحقة رجال الأمن في نظامه وقتلهم أو إصابتهم ؛ أما تكفيره فإنه شرعا كبيرة من الكبائر ، لأن إسلامه يقين ، وكفره ليس كذلك ، وما كان يقينا فلا يزول إلا بيقين ، وأما محاولة قلب نظامه فكبيرة بقدر ما أسفرت عنه من دماء وخراب وترويع للآمنين ، وأما ملاحقة رجال الأمن وقتلهم أو إصابتهم فإن قتلهم كبيرة من الكبائر ، لأنهم مسلمون عصمت كلمة التوحيد حياتهم ودماءهم ؛ ومحاولاتهم التي شرعوا فيها منذ ربع قرن هي عصيان لا مبرر له شرعا ، وهم لا يختلفون عن غيرهم في وصفهم بالبغي ، ولأي حاكم أن يعاقبهم بأية عقوبة يراها ، فلا دليل على أن من يخرج على حاكم قطر يعاقب بعقوبة محددة ، فأي عقاب ينزله بهم لا تثريب عليه فيه ، وخروجهم هذه المرة لا يختلف عن سابقاتها ، وكلها بغي وعصيان لله ورسوله ، وما يشعر به أهلهم ومن بقي منهم حيا من فخر بهم في غير محله ، ومن يعتبر موتاهم شهداء قد أخطأ إذا أراد وضع هذا التاج على رأس هؤلاء.
مفهوم يجب تصحيحه
لقد اختلط الحابل بالنابل في القضية الليبية ، حيث يسعى البعض لإسكات الخصم بالمغامرة بالتصريح بكفر القذافي ، ليكون الخروج عليه وعزله بالقوة أمرا مقبولا شرعا ، وهذا أمر في حاجة ملحة لتصحيحه ، فإن العلماء الذين حكموا بكفره غير معصومين ، وقد اتبع جهاديو ليبيا قولهم وخالفوا رأي الفقهاء الباقين المعتمد على نهي ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فقد جاء النهي عن نزع اليد من الطاعة ، وعن عزل أي حاكم سواء أحب الناس سياسته أم كرهوها في حديث : " وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ، ولا تنزعوا يدا من طاعة " وجاء ذم من يحمل السلاح لقتال الحاكم فيما روي عن ابن عمر : " من حمل علينا السلاح فليس منا " حتى إن بعض العلماء اعتبرهم كفروا حقيقة إن فعلوا ذلك.
ولم يرد عن الرسول أنه إذا حكم بعض العلماء بكفر الحاكم فخلعه من منصبه بالقوة مباح شرعا ، فما فعله من أخذوا العلم عن السعوديين وغيرهم من الإسلاميين وغير الإسلاميين هو معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم شرعوا في خلع حاكم مسلم حكم عشرات السنين ولم يكفر صريحا متفقا عليه ولا مسلّما به ، فاستنادهم إلى ما قاله علماؤهم هو خطأ علمي قاتل لهم قبل غيرهم ، ويحرم عليهم اتباع علمائهم فيه والاستمرار في التصريح بكفره ؛ وهذا التمسّك منهم بما يراه علماؤهم ليس له قيمة علمية ، ومن الخطإ والسذاجة تصوير المسألة وفهمها بهذا الشكل ، و بما أن الفتوى لم تصدر عن معصوم ، فماذا لو تبين يوم القيامة أنمن قالها قد أخطا ؟.
وما قاله أولائك العلماء وما تسببوا فيه من دمار واقتتال بين الليبيين ، سواء في حالات سابقة أو حاليا مما قام به مقلدوهم بدعوى نشر الفكر السلفي ، كلام لا يسمن ولا يغني من جوع ، فلو لم تسفر الأحداث عن إراقة دماء وقطيعة ، لأمكن القول بأن المشاركة في إسقاط نظامه عمل مبرر شرعا ، ويمكن الاعتماد على ما ينسبونه له من ظلم وغيره مبررا لعزله ، أمَا وقد وقعت كل هذه البلايا فإن الدماء التي أريقت والأرواح التي أزهقت والقطيعة التي وقعت ، كلها في نظر الشرع كبيرة من الكبائر تسبب العلماء فيها ، ومن تعاسة العالم أن يعصي ربه ويتوهم أنه على الصراط المستقيم ، وصدق فيهم قوله تعالى " وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا ".
وهذا حال بعض الليبيين من العلماء والعامة ، المدنيين والعسكريين ، ومن غريب أمر المسلحين أنهم لم يتظاهروا لوضع حد للفساد وسوء الإدارة ونحوه ، فذلك وإن كان معصية فهو من الصغائر ، لأن القذافي كان قد منع منه ومخالفته لا تجوز ، كغيره من أي مباح ، ولو خرجوا لذلك وقاتلهم لم يجر للناس دعمه ضدهم ، أما اختيارهم عزله بالقوة مهما كان الثمن فكبيرة ، وهو أمر يوجب عليه وعلى الناس معه قتالهم.
قد يرجف البعض أن هذا فكر عفا عليه الزمن ، ولا ينبغي التعويل عليه ، وسبب هذا ربطه بين بحرمة العزل بالقوة وبين حرمة المراجعة والاعتراض على مختلف السياسات ، والصواب أن تلك المطالبة واجبة أو مباحة ، أما العزل بالقوة فإنه محرم بل ومن الكبائر ، بغض النظر عن الهدف منه.
المؤسف أن بعض العلماء حين شبت النار ورأوا البلاد الليبية تحترق واشتد أوار نارها اتجهوا بدلا من إخمادها إلى صب الزيت عليها ، فاستعرت حتى أحرقت العباد ودمرت البلاد ؛ لو أن علماء الرعاع المسلحين اتبعوا منهج الإسلام ما سالت الدماء ولا وقعت القطيعة في مجتمعاتنا ولتخلصت بلداننا من فساد مستشري ، واستبداد مزري .
وهذه الرؤية التي سوّغت لهم دفع الناس للدخول في حرب ضروس أتت على الأخضر واليابس هي يقينا مخالفة لتعاليم الإسلام ولو ادعوا أنهم يحملون مشروعا إسلاميا ، فمشروعهم الذي يدّعونه لم ينزل به وحي من السماء ، بل هو رؤية أصحابه في وضع نصوص شرعية موضع التنفيذ حسب رؤيتهم ، يقابله ما وضعه مَنْ قبلهم حسب رؤيته ، وكان الواجب بيان المواضع التي خالف فيها النظام تلك النصوص ، كما كان الصحابة يفعلون ، ولو فعلوه لما تسببوا في فتنة بيننا ، فإن سمع لهم فبها ، وإلا فقد أبرؤوا ذمتهم أمام الله سبحانه ، إنه ليس أمامهم إلا النهي عن المنكر ، أما العزل لهذه الأسباب مع ما احتمال إراقة الدماء والفتنة فهو محرم يقينا ، ورأيهم الذي أوصل البلاد لهذه الحال مخالف لتعاليم الإسلام ، وجريمة في حق أنفسهم وفي حق أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، وهم لم يقيموا وزنا لما توفره كلمة التوحيد من أمن وأمان لدم كل مسلم وماله وعرضه ، فانصبّ همّهم على التخلص من القذافي ، حتى إنهم لوَوْا أعناق النصوص وحمّلوها ما لا تحتمل.
وهم في الواقع ونفس الأمر لم يدعوا لما دعوا إليه غيرة على دين الله كما يموهّون ، بل حرصا على التمكين لنشر آرائهم في المجتمع الليبي ، ودليل ذلك أن الحكومات التي لا تمنعهم من نشر تلك الآراء لم يدعوا أنصارهم للإطاحة بها مع أنها تبيح الحر مات ، الأمر الذي يستوجب اتخاذ موقف حاسم إزاء المسئولين فيها ، ينتهي ( بعد طلب تغيير تشريعاتهم تلك ) بعزل من هو في منصب الحاكم العام ، رئيسا كان أو ملكا ، لأنه سيكون السبب في عدم التعديل.
ولقد كان مثقفو المسلمين في حاجة ماسة لمثل هذا الموقف من الفقهاء ضد القذافي ، فهم يريدون إقحام رجل الشارع في المسألة ،إنهم معجبون بالأوضاع التي يرونها في مختلف دول العالم الأخرى من تقنيات وبنية تحتية وطرق ومستوى معيشي ، فأرادوا نقلها للبلاد الليبية ، نظرا لما لها من إمكانيات مالية هائلة ، وبما أن العلماء لهم سلطة معنوية على الناس كان المثقفون مسرورين بتلك الفتاوى التي تهدف إلى الرقِيّ بالمجتمع !! بما يجعله قريبا من العالم المتقدم في تداول السلطة ومحاسبة المسئولين ، وغيره ، نعم ، للحاق بالمجتمعات المتقدمة بخطى سريعة ( نحو جهنم ) هكذا يريد البعض ، وإن كانوا لا يحبون أن يكونوا من أهل النار ، إلا أنهم يريدون منافسة أصحابها على الدنيا التي لا تزن عند الله جناح بعوضة.
وكان الفقهاء مسرورين أيضا ، ظانين أنهم سيكون لهم القول الفصل في المستقبل ، فحثوا الناس على الخروج على القذافي لأنه يمنعهم من الحريات العامة ، ومن الحقوق المالية ، وهذا ظلم أباح الإسلام مقاومته ، والسبيل للخروج من هذا الوضع السيئ ثورة عارمة !! على الجميع المشاركة فيها ، وقد استدلوا بنفس الأدلة عندما أشيع خبر احتمال الإطاحة بنظامهم !!.
واشترك في إسقاط نظامه الجهاديون الإسلاميون الذين يرون بمختلف انتماآتهم أن كل نظام يحول بينهم وبين تطبيق الأدلة الشرعية كما يفهمون هم هو نظام طاغوتي هالك ، جهاده واجب على كل قادر ، ولا علاقة لهم بالحريات ولا بتداول السلطة ولا بالانتخابات ؛ وقد أخطأوا خطأ شنيعا عندما جعلوا من أنفسهم مفتين لأنفسهم ، فأحلوا ما حرم الله من اقتتال المسلمين ، وهو خطأ قاتل لهم ولمن اتبعهم ، والعجب العجاب من حال غيرهم من العلماء ، فلم يطلبوا من الناس الخروج للإطاحة به لأنه كافر كما يزعم هؤلاء ، بل لأمور دنيوية لا قيمة لها عند الله.
وأما السياسيون فإنهم لم يخرجوا حَمِيّة للدين ولا يعرفون هذه الحمية ، ولو لم يتحركوا ضده لما أمكن الانتصار عليه ، فتدخّلهم عامل كبير من العوامل التي أدت إلى سقوطه ؛ ولمّا دخل الفقهاء على الخط استجاب لندائهم العديد من الناس ، حتى إن بعض المقاتلين من قوات القذافي كانوا يتحينون الساعة التي يتمكنون فيها من الهروب من الميدان بسبب هذه الفتاوى ، وأيضا لأنه لم يكن يعطيهم من المال مقابل عملهم طيلة التحاقهم بالجيش والأمن من زمن بعيد.
والمؤسف أن بعض الجهاديين يقاتلون وهم يكبرون الله ، ظانين أنهم مجاهدون في سبيله حقا ، ومن مات منهم هو شهيد عند الله تعالى ، والحقيقة أن الجهاديين مجاهدون في سبيل آراء علماء مدارسهم التي ينتمون إليها ، فالسلفيون مجاهدون في سبيل آراء علمائهم ، والإخوان المسلمون مجاهدون في سبيل فكر مدرستهم ، وأتباع القاعدة مجاهدون في سبيل فكرهم ، ولا وجود لمجاهد بالمعنى الحقيقي ، ولا يتصور عاقل وجود مجاهدين يقاتلون قومهم المسلمين !!.
وهكذا فجميع المقاتلين الذين يظهرون بمظهر من يحمل مشروعا إسلاميا ليسوا مجاهدين في سبيل الله كما يتوهمون وكما يردّدُون ، ومن مات منهم ليس شهيدا بل مات ميتة جاهلية ، وكما أنه لا يجوز لأتباع المذهب الشافعي مثلا استعمال القوة للإطاحة بحاكم لا يسمح لهم بنشر مذهبهم في بلاده ، فكذلك هؤلاء الجهاديون لا يباح لهم استعمال القوة للإطاحة بحاكم لا يسمح لهم بنشر مذهبهم في بلاده ، لا فرق بينهما أبدا من أي وجه من الوجوه .
إن المجاهد حقا هو من يقاتل قوما أمر الله بقتالهم ، وذلك يشمل الكفار والبغاة ، أما هؤلاء الخارجين فإنهم يقاتلون قوما نهى الله عن قتالهم ، فالحاكم لأي قطر مسلم لا يوجد إذْنٌ بقتاله مهما كانت شدة جوره وفسقه وسوء إدارته إلا إذا أمنوا وقوع فتنة وظلم ، بل إنه ينهى عن قتاله أشد النهي ، ولا يبيح أيضا السكوت على ما في بلاد المسلمين من ظلم وفساد وتخلف واستبداد ، ويأمر أن يبذل العلماء جهودهم لتغيير المنكرات ، مع بقاء الحكام في مناصبهم.
لكننا نعيش في ظل جماعات إسلامية تريد أن تحكم لا أن تطبق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء حكمت أم لا ، ومن ثم فمن مات من هؤلاء المعارضين ( الجهاديين أو الإسلاميين عموما ) لأي حاكم لم تعجبهم إدارته لهذا البلد أو ذاك ليس شهيدا أبدا ، بل مات ميتة جاهلية ، فقد تسببوا في اقتتال المسلمين ووقوع فتنة بيتهم ، وتجاهلوا فريضة النهي عن المنكر ، فعليهم الكثير من الوزر والإثم ، وسيفاجأون يوم القيامة بأهوال وطوام لا قبل لهم بها.
ويردد خصوم القذافي أن بعض المقاتلين من قواته كانوا يتحينون الساعة التي يتمكنون فيها من الهروب من الميدان ، ولا ريب أن سبب ذلك هذه الفتاوى ، إضافة إلى أن مرتباتهم مقابل عملهم طيلة التحاقهم بالجيش والأمن من زمن بعيد لم تكن تتناسب مع ما سيطلب منهم ذات يوم ، كما أن الجهاديين خاصة قد تأثروا ( بتضليل من تلك الفتاوى ) تأثرا سلبيا ، فكانوا يظنون أنهم فعلا قوم مهتدون ، فتراهم على الفضائيات يرددون قصصا يسمونها معجزات عن حوادث خارقة للعادة المألوفة كنجاتهم بأعجوبة من موت محقق أو استسلام بعض المقاتلين من قوات النظام والهروب أمامهم ؛ فاعتبروها من قبيل الكرامات ، وهي في الحقيقة من باب الاستدراج ، فالله تعالى يقول : " قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا " ولا شك أن المقاتلين لأي حاكم لم يكفر كفرا صريحا هم في ضلالة ، وبالتالي فسيكون لهم من الله مدد ليزيدوا من ضلالتهم تلك ، والوزر عليهم وحدهم ، فالله قد أوضح لهم ما يجب عليهم ، ولكنهم تنكبوا الطريق ، وأعرضوا عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واتبعوا أهواءهم ، فلما وقعت لهم بعض الأمور الخارقة للعادة ظنوا أنها كرامة ، وإنما الكرامة يظهرها الله على المتقين ، وهم عصاة بإجماع العلماء ، كما سيأتي عند الكلام علي البغاة ، وتلك الفتاوى أوهمتهم أنهم على شيء من الحق ، وإنما هم عصاة.
وانتصارهم عليه إنما كان بسبب تدخل الناتو ، هذه حقيقة مرة بالنسبة لهم ، ولا يحبون ترديها في المجالس ، فهم يظهرون أنهم تمتعوا بقدرة خارقة على مقاومة قواته التي تفوقهم عددا وعتادا ، ومع ذلك فقد تغلبوا عليها ، لأنهم على حق ، وقواته على باطل ، والحق أن قواته هي التي تمتعت بقوة خارقة حين قاومت قوات 40 دولة من كبريات دول العالم ؛ إلا أنهم يستاءون من التذكر بهذا ، بل يتوهمون أن الله عز وجل قد نصرهم عليه لظلمه وطغيانه ، وهم سينشرون العدل والسلام !! وفاتهم أنه بحكم أنه تولى منصبه واستتبت له الأمور ، فلا يجوز إلا وعظه وتذكيره بما عليه من واجبات ، كما يجب توجيه الكلام لغيره من المسؤولين عن الشأن المحلي بمختلف قطاعاته ، ولا يجوز اختزال الخلل والشلل العام الذي حل بالبلاد في شخصه هو لا غير.
وتبيانا للغموض والالتباس حول ما يرجف به العض من أن الله نصرهم ، يجب أن لا يغيب عن بالنا أن تاريخنا حافل بانتصار للبغاة ، وأولهم البغاة على عثمان بن عفان رضي الله عنه ، أليسوا قد انتصروا عليه وقتلوه ؟ّ! جاء عن هذا في كتاب البداية والنهاية لابن الأثير ما يلي : " تكاتب أهل مصر وأهل الكوفة وأهل البصرة وتراسلوا ، وزورت كتب على لسان الصحابة الذين بالمدينة ، وعلى لسان علي وطلحة والزبير ، يدعون الناس إلى قتال عثمان ونصر الدين ، وأنه أكبر الجهاد اليوم .... فسار كل طائفة من بلدهم حتى توافوا حول المدينة ، كما تواعدوا في كتبهم ، في شهر شوال ، فنزل طائفة منهم بذي خشب ، وطائفة بالأعوص ، والجمهور بذي المروة ، وهم على وجل من أهل المدينة ، فبعثوا قصادا وعيونا بين أيديهم ليخبروا الناس أنهم إنما جاؤوا للحج لا لغيره ، وليستعفوا هذا الوالي من بعض عماله ، ما جئنا إلا لذلك " ( تنبه أيها القارئ إلى القول بأن الهدف من خروجهم مشروع ، وغاية نبيلة ، يريدون الحج !!! مع أن مرادهم في الحقيقة هو قلب النظام ، وهذا ما يردده أحفادهم من خوارج اليوم في ليبيا وسوريا )
وأضاف : " واستأذنوا للدخول ، فكل الناس أبى دخولهم ونهى عنه ، فتجاسروا واقتربوا من المدينة ، وجاءت طائفة من المصريين إلى علي .... فسلموا عليه ، فصاح بهم وطردهم ، وقال : لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فارجعوا لا صبّحكم الله ، قالوا : نعم ! وانصرفوا من عنده على ذلك ، وأتى البصريون طلحة ... فسلموا عليه فصاح بهم وطردهم ، وقال لهم كما قال علي لأهل مصر ، وكذلك كان رد الزبير على أهل الكوفة ..... فرجع كل فريق منهم إلى قومهم ، وأظهروا للناس أنهم راجعون إلى بلدانهم ، وساروا أياما راجعين ، ثم كروا عائدين إلى المدينة ، فما كان غير قليل حتى سمع أهل المدينة التكبير ( انتبه أيها القارئ : التكبير !! إنها فكرة قديمة للخارجين على ولي أمر المسلمين ، ولقد فعله أحفادهم الآن في ليبيا وسوريا وهم لا يعلمون بأنهم مسبوقون بخوارج قبلهم ) وأضاف ابن كثير : " وإذا القوم قد زحفوا على المدينة وأحاطوا بها ، وجمهورهم عند دار عثمان بن عفان ، وقالوا للناس : من كف يده فهو آمن ، فكف الناس ولزموا بيوتهم ، وأقام الناس على ذلك أياما ، وذهب الصحابة إلى هؤلاء يؤنبونهم ويعذلونهم على رجوعهم ، حتى قال علي لأهل مصر : ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم ؟ فقالوا : وجدنا مع بريد كتابا بقتلنا ، وكذلك قال البصريون لطلحة ، والكوفيون للزبير ، وقال أهل كل مصر : إنما جئنا لننصر أصحابنا ، فقال لهم الصحابة : كيف علمتم بذلك من أصحابكم ، وقد افترقتم وصار بينكم مراحل ؟ إنما هذا أمر اتفقتم عليه ، فقالوا : ضعوه على ما أردتم ، لا حاجة لنا في هذا الرجل ، ليعتزلنا ونحن نعتزله - يعنون أنه إن نزل عن الخلافة تركوه آمنا ".
وبعد هؤلاء خرج عبد الملك على عبد الله بن الزبير وانتصر عليه ، فهل هو الآخر نصره الله لأنه على الحق في مواجهته ابن الزبير الذي بايعه كبار الصحابة ؟ !.
الشيخ محمد الغزالي والقذافي
الشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله ورضوانه هو من أكبر العلماء في المدرسة الوسطية المعاصرة ، وهو غير محسوب على السلفيين المعاصرين بل إنهم يكرهونه ويرجفون في حقه ، ومن قوله الحق في القذافي ننقل هنا بعض ما سطره في كتاب قذائف الحق ، حيث نقل حوارا بينه وبين أحد قدامى الإخوان المسلمين ، انتقد القذافي نقدا علميا صحيحا ، وقال فيه رأيا صائبا ، وجاء في ذلك الكتاب : " قلت لأحد قدامى الإخوان : ما رأيك في العقيد القذافي ؟ قال : نتمنى له التوفيق في خدمته للإسلام ، لقد جمع من خبراء الفقه والقانون من يعاونون على إعادة الشريعة الإسلامية إلى الحياة ، وهذا سعى مشكور ، وقد حسبته أول ما قام بثورته من جماعة الإخوان ، لأنه تبنّى أفكارهم ومبادئهم ، ما انتقص منها ولا زاد عليها ، ولما تناول الإخوان بالسوء قلت : لعلها تقية حتى يتركه الخصوم ـ خصوم الإسلام ـ يمضى في طريقه دون اتهام ولا تعويق ، فرددت على هذا الأخ القديم : وهل لا زلت على رأيك الأول وهو يتهم جماعتكم بالتعاون مع الاستعمار ويعتقل في أنحاء ليبيا من يظن بهم الانتماء إلى الجماعة ؟ قال : إنني في حيرة ، وما أحسبني كنت واهماً عندما عددته من الجماعة ، إنه ليس فقيهاً إسلامياً ولا مفكراً إنسانياً يمكن وصفه بأنه أتى من عند نفسه بما أتى به ، إنه يردد كل ما كتبه الإخوان من نظرات اقتصادية وسياسية للشريعة الإسلامية ، وأنت خبير بأن ما نشر في أرجاء العالم الإسلامي والعربي من هذه الكتابات هو لمؤلفي الإخوان أو لأصدقائهم العاملين معهم في هذا الحقل ، والمتعرضين معهم للاضطهاد والبلاء ، لقد تبناه العقيد القذافي بما فيه من خطأ أو صواب !! " وفي معرض انتقاده هو وصاحبه للقذافي قال : " ثم قال صاحبي في حماس : إن اصطياد التهم للجماعة على هذا النحو الشائن لا يمكن أن يكون إلا لحساب الاستعمار ، حتى لا يتكوّن جيل من المؤمنين الأحرار يقاوم الصهيونية ، ويحمى الأمة المحروبة تيارات التخريب النفسي والخلقي ، قلت : ولعله عدم إلمام بالتاريخ القريب أو لعل إشاعات سبقت إلى فكر الرجل من أناس خدع بهم فصدق دعواهم " !.
وعن رأيه في القذافي قال : " رأيي أن العقيد القذافي يمكن أن يتفاهم معه ، وأن يراجع نفسه في بعض الأحكام " وصدق الشيخ المرحوم في نظرته هذه ، فقد حصل هذا التراجع للقذافي في عدة أمور في ليبيا ، كإلغاء فكرة الشريط الساحلي التي تبناها فترة من الزمن ولما رفضها الشارع تخلى عنها ، وإقحام المرأة في الميدان العسكري التي أصر عليها ، ولما لم تحض بقبول الشارع تخلى عنها ، وكذلك التجارة التي ألغاها ثم سمح بها ، وغير هذا ......
والمستوى الراقي للشيخ المرحوم ينبئك عنه وصفه الدقيق للمخطئين قال : " لقد استمعت إلى المحاضرة التي ألقاها في مقر " اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي " بالقاهرة ، والتي خلص منها إلى أن المسيحي رجل يعبد الله على طريقة عيسى بن مريم ، فهو بذلك مسلم ، لأن أتباع عيسى مسلمون بنص القرآن الكريم ".
وعلق على كلامه هذا فقال : " أما أن أصحاب عيسى الأوائل مسلمون عبدوا الله الواحد ، وصدقوا رسوله عيسى ، فهذا ما أجمع المسلمون عليه ؛ وأما الزعم بأن الذين عبدوا عيسى نفسه مسلمون ، فهذا ما لم يقله أحد ! فإن الخصومة بيننا وبين النصارى أنهم لا يتبعون عيسى عبد الله ونبيه إلى بنى إسرائيل ، لا يتبعون الإنسان الذي قال : " إن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " إنهم يتبعون شيئاً اسمه ابن الله الوحيد ، الذي ضحّى به على الصليب قرباناً لتكفير الخطايا ، وهو الرب يسوع المسيح ، فهل هذا إسلام ؟ لقد وصف الإسلام هذا القول بالكفر " وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين " وليس يعطى كلام العقيد القذافي أية وجاهة أن مجلس قيادة الثورة أقره وتبناه ، أخشى أن يُطّرِدّ القياس ويقال : إن اليهودي إنسان مسلم يعبد الله على طريقة موسى الكليم ، وبذلك تنحل المشكلات القائمة بين العرب واليهود ، فالكل حسب هذا المنطق مسلمون ينبغي أن يتفسحوا في المجالس والأوطان ، وأن يسع بعضهم بعضاً دون شحناء ولا بغضاء !! ".
وحكمه على القذافي في مثل هذه الأمور المتعلقة بالعقيدة قرره بقوله : " إن العقيد يظلم نفسه إذ يخوض في هذه البحوث ويقرر هذه النتائج " نعم هذا هو الحق ، فالدخول في أمور العقيدة غاية في الصعوبة ، وليس كل من يخطئ في شيء منها هو كافر كما يردد البعض عن قصور في الفهم والعلم ، فالردة إنما يصح الوصف بها بعد إقامة الحجة لا قبلها.
والقذافي قد يراه بعضهم لا يقبل أي رأي يقدمه له ناصح أمين من أبناء البلد ، وهذا تضليل للرأي العام ، فما من إنسان إلا وله من يستشيرهم ، وكل ما في المسألة أن بعض الليبيين أراد أن يتطفل ويجعل من نفسه مستشارا له ، والقذافي لم يقبل ذلك ، ومن حقه عدم الأخذ بما أشار به عليه ، وليس من حق من نصّب نفسه مستشارا أن يفرض نفسه عليه.
وقد يرونه ديكتاتورا مستبدا ، دمر البلاد كما يزعمون ، والحق أنه لم يدمرها ، فلم تكن قد تم بناؤها ، ربما لم يبنها كما ينبغي ، أما انه دمرها فلا ، ثم إن هذه أمور تافهة شرعا ، تباح المطالبة بها أو العزل دون وقوع فتنة وتفكيك البنية الاجتماعية ، ولم يقع هذا ، بل دمر الغرب معدات عسكرية ، ومنشآت مدنية ، بذريعة حماية المدنيين.
مآخذ بعض خصوم القذافي عليه
هناك مآخذ على أي نظام بشري ، ولكن بعض المآخذ تكون عامة وشاملة للبلاد وكثير من الناس ، وبعضها ليس كذلك ، كما أن منها ما هو مقبول شرعا ، ومنها ما هو غير مقبول ، وسيتم الحديث هنا عن المآخذ التي يرددها خصوم القذافي المقبول منها وغير المقبول ، ومدى موافقة ذلك للأدلة الشرعية وأقوال العلماء.
فمن ذلك 1
أن القذافي انقلب على نظام شرعي يدير البلاد وفق أحدث الطرق البرلمانية المتعارف عليها ، فانقلابه لا شرعية له وإن طال الزمن.
وهذا الكلام وفق الأدلة وآراء الفقهاء غير مقبول ، وإن كثر المرددون له ، فمن وجهة دينية لا شرعية لذلك العهد وإن كان قائما على أسس ديمقراطية ، أو أن سلطاته الثلاثة مستقلة عن بعضها وتمتع الناس بمساحة من الحرية ، وهذا وغيره لو صح فلا عبرة به شرعا ، إذ المدار على شرعية أي نظام لا يتمثل في قيامه على تلك الأسس ، ولا في استقلال سلطاته عن بعضها ، بل في أشياء متعددة منها : منع ما حرم الله ، فإن أباحها أو بعضها فإنه قد فقد شرعيته ، هذا ما نص عليه العلماء كما تقدم ؛ وبما أن ذلك العهد كان يبيح ما ذكر من الموبقات فهو فاقد الشرعية من وجهة دينية ، وبحكم أن الناس لا يعرفون هذا الحكم الشرعي فقد خالفوه ، ولذا تسمعهم يدافعون عن العهد الملكي بكل ثقة في النفس ، مع أن الأمر بخلاف ما يرددون يقينا .
ومنها 2
أنه منعهم من حقوقهم في ثروة بلادهم التي تجعلهم يعيشون عيشة راضية كما هو الحال في بعض دول الخليج ، ونظرا لحسده لم يعطيهم إلا ما هو أقل من القليل ، وكان يعطي معظمه للأفارقة وغيرهم ، وهو مطلب كان الغرب قد طلبه من الملك إدريس الذي رفضه حرصا على أن يجعل الليبيين يعيشون عيشة راقية ، ولما جاء هذا الانقلابي ما لبث أن أعطاهموها حسدا في الليبيين ، فنقموا منه وعزلوه.
والرد على هذا أن الساسة الغربيين لا يهتمون بالجياع في أفريقيا أو غيرها ، وها هي المنظمات الدولية تشكوا من انعدام دعم الدول لصالح الفقراء ؛ وعلى فرض صحة هذا الكلام فإن الرد من الملك يومها في محله ، فالليبيون حينها كانوا يعانون من فقر مدقع ، ودخل البلاد كان ضئيلا ، وهم أولى به من كثير من الشعوب ، أما بعده فإن الوضع قد تغير ، فتحسن دخل الفرد الليبي كثيرا ، وانعدم الفقراء في ليبيا ، وإن لم يصلوا إلى درجة الثراء ، لذا فمن المقبول منح الأفارقة وغيرهم قدرا من الدخل العام للبلاد ، كما أن الدخل ليس لليبيين وحدهم ، بل للمسلمين كلهم ، وقد تقدم ؛ وأيضا فإن أحد الصحابة كان يرى مقاتلة من يمنعه من هذا الحق من الحكام ولم يوافقه الرسول على رأيه هذا ، وقد تقدم هذا أيضا ، فمأخذهم هذا خطأ شرعا.
ومنها 3
أنه قتل وسجن من الليبيين أعدادا كبيرة ، وأولئك لهم أهل وأقارب وأصدقاء لا شك أنهم يترقبون ساعة الخلاص منه ، ولو لم يقتل ولم يسجن أبناءهم وأقاربهم وأصدقاءهم لما كان هذا الارتقاب لليوم الذي يحمل خبر القضاء عليه وعلى نظامه ، ومن هنا فهو المسئول عن كل ما حدث وما سيحدث ؛ إنه من المألوف أن ترى رجلا أو امرأة ممسكا بصورة ولده أو ولدها أو أخيه أو أخيها أو أبيه أو أبيها ، تذرف عيونهم الدموع يتحدثون عما لحق قريبهم من عقوبات ، أو إعدام أنزله به النظام ليستدرّ عطف العامة فيشدوا أزره ، ويقفوا إلى جانبه ضد تلك الأجهزة التي فعلت هذه الأفاعيل ، وهذا إرجاف في المسألة برمتها.
وردا على هذا المأخذ أن لوم النظام على قتل وسجن من ذكر هو قلب للحقائق مائة وثمانين درجة ، فهل قتلهم أو سجنهم لأنهم مولودون في منطقة كذا ؟ الجواب : لا ، هل قتلهم أو سجنهم لأن اسمهم مبدوء بحرف كذا ؟ الجواب : لا ، هل قتلهم أو سجنهم لأنهم مولودون يوم كذا ؟ الجواب : لا ، لقد قتلوا وسجنوا لأنهم مدنيين وعسكريين جهاديين وغير جهاديين أرادوا الإطاحة به خلال سنوات حكمه قديما وأثناء الحرب الأخيرة ، ومن هنا فإنهم يستحقون هذه العقوبات ، وهم في نظر الفقهاء بغاة ، وقتل البغاة وقتالهم ليس مباحا للحاكم فحسب ، إنه واجب عليه اتفاقا ؛ ولو تتبعنا النصوص الشرعية لا نجد في كتاب الله آية تنهى عن قتال الخرجين على من يحكم قطرا من أقطار المسلمين ، ولا حديثا نبويا ؛ فلو تتبعنا ما فعله الصحابة نجد أن موقفهم يتراوح بين عدم القبول بمطلب الخارجين مع عدم قتالهم ، كما كان من عثمان بن عفان ، الذي برر ذلك بأنه لا يريد أن يكون أول من يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل ، عندما طلب منه عدد من الصحابة أن يأمر بقتلهم ؛ وبين عدم قبول طلبهم ، مع مواجهتهم وإراقة دمائهم ، كما كان من علي بن أبي طالب حين رفض معاوية بيعته خليفة لعثمان بن عفان ، وعبد الله بن الزبير حين خرج عليه عبد الملك بن مروان .
إن على هؤلاء الأهلين أن يعلموا أن أقاربهم هم المخالفون للأدلة وعمل الصحابة ولأقوال الفقهاء في المسألة ، وأن النظام عندما عاقبهم بأي نوع من العقوبات كان يفعل ما هو واجب عليه ؛ و سيأتي الحديث عنه عند الكلام على البغاة.
ثم إن أقصى ما يقال في سجنهم أو قتلهم أنه ظلم من حاكم ، ووقوع الظلم من أي حاكم أمر محتمل ، إنه بشر كغيره ، المدير قد يظلم من معه من الموظفين ، والقاضي قد يظلم أحد الخصمين ، الظلم ممكن من الحاكم وغيره ، وإنما كثرة الظلم هي التي تبيح العزل شرط أمن الفتنة والظلم وتفتيت اللحمة الوطنية ، وتفكيك التركيبة الاجتماعية ، سواء كثر عدد القتلى والسجناء أو قلّ ، كانوا من الجهاديين أو غيرهم.
ومنها 4
أنه كافر مرتد ، والبعض تأخذه نشوة وهو يتباهى بالتصريح بأن القذافي مرتد ، وهو ليس منا ، فنحن مسلمون أما هو فمرتد بكل تأكيد ، وبالتالي فالخروج عليه إما واجب أو مباح ، وكان على الجميع العمل على الإطاحة به.
وردا على هذا المأخذ أن هذا خطأ علمي ، فإن الرسول حدد الحالة التي يعزل الحاكم بسببها بالكفر البواح فقط ، فهل كفر كفرا بواحا لا يختلف عليه اثنان ؟ أو كفرا يراه بعض العلماء فقط ؟ الظاهر الثاني ، فلم يصرح به إلا بعضهم ، ولم يصدر عن مؤسسة علمية على مستوى العالم الإسلامي كمجمع البحوث الإسلامية ، ولا مجمع الفقه الإسلامي ، ولا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ، ولا دور الإفتاء في مختلف الدول العربية والإسلامية ، فهي إذا : فتوى أصدرها بعض الفقهاء ، وهم أيضا لم يقولوا إنه كفر كفرا بواحا ، والكفر البواح هو الذي جاء الترخيص بالعزل بالقوة بسببه ، فالاعتماد عليها في قتاله وإراقة دماء المسلمين وتعريض الآمنين للخطر هو كالتعلق بقشة لا يلبث من يتعلق بها أن يغرق معها ، وعاقبتهم وخيمة لما تسببوا فيه من اقتتال بين الناس ودمار للبلاد ؛ ولو قيل لمن يصرح بردة القذافي هل سمعتها من معصوم أم من غير معصوم ؟ سيجيب بأنه لم يسمعها من معصوم ، ولكن الأمر مفروغ منه يقينا ، فيقال له : ماذا لو تبين يوم القيامة خطأ هذا الرأي ؟ كم هو قدر جنايتك على البلاد وأهلها المسلمين ؟ ألم تكن في غنى عن هذه المغامرة الموبقة ؟!.
وثم سؤال آخر : هل كفر قبيل الخروج عليه ببضعة أيام ، أم بعشرات الأعوام ؟ فإن كان الأول ، فمتى قال أو فعل ما اعتبروه ردة صريحة ؟ وإن كان الثاني ، فلماذا لم يوجّهوا هذا الخطاب لليبيين منذ عشرات السنين ؟ إن الواجب عزل من يكفر فورا دون تأخير ، أو الهجرة لأي قطر مسلم وترك البلاد التي يحكمها.
وأيا ما كان ، فإنه على القول بكفره لماذا تأخر ردهم عليه حتى يومنا هذا ؟ وماذا عنهم هم ؟ إن الإقامة في أرض تعيش يحكمها حاكم كافر لا تجوز في الإسلام ، وكان على هؤلاء الغيارى على الإسلام أحد أمور ، فإما أن يقيموا عليه والحجة ، وإن أصر على العناد أطاحوا بحكمه ، وإلا فعليهم أن يغتالوه ، فإن لم يفعلوا فعليهم الهجرة فرارا بدينهم ، إلى أي قطر مسلم لا يخضع لحاكم كافر ، فإن تخاذلوا ولم يفعلوا هذا ولا ذاك فإنهم قوم فاسقون ، ينطبق عليهم قول الله تعالى : " قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " فحين يحب المسلم أمواله وأعماله وعلاقاته ، ويفضلها على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله ، فقد أشارت الآية إلى فسقه.
ثم إن السياسيين الذين نادوا بالإطاحة به في الفيسبوك لم يكن لكفره ، وهم لا يقيمون وزنا للمنطلقات العقدية ، إنهم ينطلقون مما تقدم ذكره ، يضاف إليه الرغبة في الانتقام منه ومن أجهزته الأمنية التي اعتقلتهم بتهمة محاولة الإطاحة بنظامه طيلة سنوات حكمه ، وقبضت عليهم وألحقت بهم صنوفا من العقاب ، فشرعوا في قتلهم بعد انتهاء الأحداث ، ومحاولاتهم الإطاحة به محرمة شرعا ، وهذا يقتضي عقاب مرتكبها ، فما فعلوه بهم هو عقاب لهم على عصيانهم عصيانا متفقا عليه بين العلماء ، ومثل ذلك قتل رجال الأمن بعد انتهاء الأحداث ، فما فعله أولائك الأمنيون هو واجب عليهم ، إذ على الحاكم معاقبة من يريدون عزله بما يراه مناسبا ؛ ومن قتلهم ظلما أو أصيبوا إصابات معينة خطأ فلهم الدية عما أصابهم ، نعم الدية فقط ، هذا ما كان واجبا عليه ، ومعلوم أن بعضهم قد تم تعويضه بمبالغ طائلة ، وهذا مخالف لتعاليم الإسلام ، لأن الأموال التي تجبى من مختلف مصادر الدخل ليس لنا نحن الليبيين ، فليبيا جزء من أرض الإسلام والمسلمين ، فعائدات دخلها لا يمكن أن تكون خاصة بهم ، بل هو لكل المسلمين ؛ وأسوأ من تلك التعويضات ما تقرر من منحهم المبالغ الكبيرة التي اتخذ العهد الحالي تعويضهم بها ، إن هذا حرام على من اقترحه ، ومن وافق عليه من النواب ، ومن رضي عنه من العلماء والعامة ، بل ومن يأخذه من أسر من قتلوا في الأحداث ، وكذلك من أصيبوا فيها ، إن هذا تبديد لثروة من ثروات المسلمين ، وقد تقدم أن سيدنا عمر بن الخطاب كان يقسم على أن كل مسلم له الحق فبيت مال المسلمين ، وما حدث من انقسام بين أقطارنا لا يلزم منه شرعا استئثار القطر الثري بثروته ، ويجب أن يبحث المسؤولون طريقة منح المسلمين غير الليبيين قدرا كبيرا من هذه الثروات فاستئثارهم به حرام بكل المقاييس الشرعية ، ومعظم العلماء اليوم يدركون هذا ، ولكن حب المال سيطر على ميولهم فرضوا عن هذه المعصية ، وما هنا هو تذكير لهم أن ينتبهوا لما أقدموا عليه من مخالفة للنصوص ؛ وفقهاؤنا هؤلاء يزعمون أنهم يتبعون تعاليم الإسلام ، ومع ذلك فهم يتجاهلون الأدلة والآراء هنا.
وقد يكون من يسمون علماء المدرسة السلفية الجهادية ، وكذلك أنصار تنظيم القاعدة متميزين عن غيرهم ، لأنهم يعتبرون أنفسهم في حالة جهاد ضد أي نظام لا يسمح بنشر آرائهم بين المسلمين الذين انتشر بينهم الشرك والبعد عن ينبوع الشريعة !! وأن الإطاحة بالقذافي واجب شرعا ، فقد وصل الأمر في ليبيا إلى حد أنه منع الناس من الصلاة في المساجد ولاحق المصلين وتتبعهم ثم اعتقالهم ومعاملتهم كما يعامل المجرمون ، وذنبهم أنهم يصلون.
وهذا تزوير للحقيقة ، فهو لم يمنع من الصلاة في المساجد ، وكيف يتصور نظام يكلف بعض الناس بإمامة الصلاة في المساجد في الأوقات الخمسة يوميا ، ويعطيهم مالا مقابل ذلك ثم يعتقل من يصلون معهم ؟ !! والواقع يؤكد وقوع عمليات اعتقال لبعض المصلين لا كلهم ، وعند البحث نجد أن من يعتقلهم الأمن هم من يرتبطون بتنظيمات الإخوان أو السلفيين التقليديين أو الجهاديين أو تنظيم القاعدة فقط ، أما من عداهم فلا تتعرض لهم الأجهزة الأمنية بأي شكل من الأشكال ، ما لم يكونوا يعينون من ذكر بصورة أو أخرى ، ومما يؤكد صحة هذا الرأي ما يعلمه الخاص والعام في ليبيا من اكتظاظ المساجد في ليبيا بالمصلين في الأوقات الخمسة في السنوات الأخيرة ، مع أن النظام كان ما يزال يحكم سيطرته على البلاد.
ومنها 5
أنه يقمع الحريات ، ولا يسمح بتكوين أحزاب ، ولا بالتظاهر ، ولا بالاعتراض على رأيه ، وأنه حكم عقودا أربعة دون دستور ينظم العلاقة بين السلطات ، ولا يلتزم بالدبلوماسية المتعارف عليها ، وألغى القوانين التي كانت ذات يوم سارية المفعول ، ولم يبق إلا ما يريده فقط .
وردا على هذا المأخذ أن الأدلة الشرعية وكذلك أقوال العلماء لا تبيح العزل لهذه الأسباب بهذه الصورة ، فأولا : هذه أمور منافعها دنيوية ولا قيمة لها عند الله سبحانه وتعالى ، نعم إنها كلها لو جمعناها فقيمتها صفر على الشمال كما يقولون ، بل إن شئت أصفارا لاصفرا ؛ ثانيا : إن عزله لهذه المبررات لا يجوز إلا في حال الأمن من وقوع فتنة وظلم ، لكن علماء السعودية ومن على شاكلتهم لم ينبهوا طلابهم إلى هذا ، بل حثوهم على استعمال القوة ضده وليكن ما يكون ، ولا بد من تذكيرهم بقول الله تعالى : " فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " وبقوله : " وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ "
إن الدستور الذي يعول عليه كثير من المغفلين الحمقى لا قيمة له في الواقع ونفس الأمر ، فإنه حين يصدر ويستفتى عليه الناس لا يتمتع بالديمومة ، وإذا أراد البعض تغييره يستطيعون ذلك بكل سهولة ، فحين يحصلون على أكثرية برلمانية يطرحون تعديل ما يريدون تعديله منها ويتم ذلك فعلا ، فلا قيمة له بالقدر الذي يبرزه من يهوون ذلك ، وقل مثل ذلك في القوانين التي ينتقد البعض القذافي لأنه ألغاها !! ثم إنه من حقه تعديل القوانين وإلغاء ما لا يريده منها ، وكل الحكومات تفعل هذا ، فلا وجود لحكومة تبقي قوانين لا ترى أنها مفيدة للناس ، ولا تتفق مع رؤيتها لتسيير أمور البلاد.
ومنها 6
أن القذافي جعل الليبيين يأكلون الربا بما منحهم من قروض وتسهيلات ، وهذا زيف كبير لأمرين ، أولهما : أن الأنظمة المصرفية كانت قائمة منذ العهد الملكي الذي لا يستحي البعض في وصفه بأنه مبارك ، فإذا كانت الحكومة عندما تمنح سلفا وقروضا مصرفية بفوائد هي حكومة مجرمة وكافرة لأنها تسمح بتلك المحرمات ، فالعهد الملكي هو المجرم الكافر الأول ، يليه عهد القذافي ، ثانيا : أن القذافي لم يجبر الليبيين على تلك المعاملات بل ولم يأمرهم بها ، والناس هم الذين يتدافعون عليها لينالوا ما يستطيعون نيله منها ، كما هو الحال في العهد الملكي.
ومنها 7
ما اتخذه من قرارات أصدرها لا ترضي عددا من الناس ، ولم يكونوا يستطيعون التفوه بالحديث عنها فكتموا ذلك ولم يطالبوا بتغييرها ( كما تأمر النصوص الشرعية ) بل انتظروا حتى حانت فرصة الإطاحة به ثم اغتنموها وأطاحوا به ؛ ومعلوم أنه لا وجود لنص شرعي يقول إن الحاكم لو فعل كذا وكذا مما لا يرضى الناس عنه فعزله جائز ، ولو أدى إلى اقتتال وفتنة.
ومنها 8
أنه أنشأ جيلا لا يحب العلم ولا العمل ، وهذا نتيجة سياسته التعليمية العقيمة ، في حين أن بعض الدول الأخرى كتونس ومصر والأردن وغيرها نهضت حكوماتها بشعوبها ، وردا على هذا يقال : إن هذه مقارنة عقيمة وقياس مع الفارق ، فمقارنة تونس ومصر ينبغي أن تكون بدولة كاليمن وموريتانيا ، فكلها ليست دولا نفطية ، أما ليبيا فيجب مقارنة أبنائها بمثلهم من دول الخليج ، وننظر مثلا في السعودية والكويت هل الناس فيهما يحبون العلم والعمل ؟ الجواب : لا ، فالجميع مثل أبناء الأثرياء ، لا يرون أن عليهم طلب العلم ، لأن طلبه للحصول على المال ، والمال متوفر ، فلا حاجة للعلم ، وأما أهل تونس ومصر و ... فهم بمنزلة أبناء العائلة المحدودة الدخل ، يعلمون أن عليهم أن يكدوا وأن يعملوا ليوفروا لأنفسهم دخلا وفيرا .
ومنها 9
معاملة من قاتلوا في تشاد وأوغندا بأقل مما يليق بهم ، مع أن بعضهم ترك أهله أشهرا متتالية ، فلم يرفع مرتباتهم ، ولم يمنحهم أي مزايا ، ولم يعامل أسرى الشهداء فيهما ، بما يناسبها ، مع أنها قد فقدت أبناءها ، وأحيانا عائلها الوحيد ، مع أنهم امتثلوا أمره واشتبكوا مع القوات المعادية للمسلمين فيهما .
والقول بأنهم شهداء فيه توسع في الإطلاق ، فقد كان في إمكانهم أن يكونوا كذلك ، بأن تكون نيتهم صادقة في الدفاع عن المسلمين في البلدين المذكورين ضد القوم الكافرين من الوثنيين والنصارى الفرنسيين وغيرهم ، فحينها يكون من مات شهيدا ، وبما أنهم لم ينطلقوا في خوض المعارك من هذا المنطلق فإن القول بأنهم شهداء يصعب قبوله ، فضلا عن أنهم لم يخرجوا رغبة في امتثال أمر الله بنصرة المسلمين في البلدين المذكورين ، فالحكومة لم تعلن أنها أرسلتهم تحت هذا الغطاء ، والعلماء لم يقل أحد منهم أن من يذهب للقتال هناك هو مجاهد ، وأن من مات فهو شهيد ؛ وما ذاك إلا لأن كلا من الحكومة الليبية والعلماء لا يستطيعون البوح بأن القتال في تشاد وأوغندا هو من باب الجهاد في سبيل الله ( جهاد الدفع ) فالفرنسيون والسكان غير المسلمين في تشاد ضيقوا الخناق على المسلمين واضطهدوهم ؛ وفي أوغندا قام أحد أبنائها المسلمين بالاستيلاء على الحكم فيها ، فاستنجد غير المسلمين هناك بالوثنيين والنصارى في بعض الدول الأفريقية وغيرها ، فنصروهم في مواجهة المسلمين ، فطلب المسلمون في البلدين من المسلمين في بقية دول العالم نصرتهم ، وكانت نصرتهم واجبة ، بقول الله تعالى : " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ " وكان من بين من استنصروا بهم الحكومة الليبية فنصرتهم ، ولم يكن في مقدورها ولا العلماء أن يقولوا إننا ندافع عن المسلمين في القطرين المذكورين ، لأن ذلك سيجعل الحرب حربا دينية ، وهي ممنوعة اليوم من جميع دول العالم ، ذلك أن الحرب من أجل المياه ، ومن أجل النفط ، ومن أجل ترسيم الحدود ليست ممنوعة دوليا ، أما من أجل الدين فممنوعة !! .
كذلك فإن بعض المصادر تذكر أن إسرائيل كانت تريد أن تجعل منهما محطتين لمحاصرة مصر من الجنوب ، وتدخل القذافي فيهما عرقله فترة من الزمن
والحقيقة أن القذافي قد بخس المقاتلين في البلدين المذكورين حقهم ، فهم وإن كان قتالهم أدنى من المستوى المأمول منهم ، بسبب ما يشعرون به من أنهم مكرهون على القتال ، وأنهم مجبرون على خوضها رغم أنفهم ، فهم معتدون على سكان القطرين المذكورين ، فافتقدوا الحافز النفسي الذي يجعلهم يخوضون المعارك بالمستوى المطلوب ، لكن كان عليه أحد أمرين إما أن يستمر في إرسالهم ويمنحهم هم وعائلاتهم ما يستحقونه من المال والرعاية والاهتمام ، أو أن يتوقف عن إرسالهم .
ولا يفوتنا الإشارة لمأخذ في غاية السذاجة ، وهي تلك التي تعتمد على تكفيره بناء على ما جاء في كتاب القذافي رسول الصحراء للكاتبة الإيطالية مريلا بيانكو ، فقد ورد فيه كلاما مجتزءا كأنه طائر يغرد خارج السرب ، وهو : " هل كنت راعي غنم يا رسول الله ؟ الجواب : بلى لم يكن هناك نبي لم يفعل ذلك " بعض الحمقى صدق هذه الخرافة ( مع أنها موجودة فيه فعلا ) لكن علينا أن نجيب عن سؤال : هل الحديث عن رسول الصحراء أم عن رسول الله ؟ الجواب بكل بساطة : مع رسول الصحراء ، وإذا : فإن وجود كلمة : ( الله ) هي في غير موضعها ، والخطأ إما من المترجم من اللغة الإيطالية في المقابلة وإما أنه خطأ منه في الطباعة ، فالكاتبة تتحدث مع رسول الصحراء ، ولا محل للكلام عن رسول الله ، ولا علاقة لها به من قريب ولا من بعيد ، إن سوق هذا الكلام إنما هو لبيان مدى سذاجة خصوم القذافي المغرقة في البعد ، لكنهم وحرصا مننهم على إلقاء اللوم عليه يرددون ما يقبله العقل وما لا يقبله.
وأما إصرار البعض على القول بأن القذافي قد ظلم الليبيين ظلما كثيرا ، وهذا دفعهم للبحث عن التخلص منه وقلب نظامه بأية صورة ، ووجدوا ضالتهم في التعاون الدولي وتعاطفه مع قضيتهم ، فالرد عليه بفرضيتين ، أولهما : عدم التسليم بهذا القول ، فإنه حين قتل أعداد منهم وسجنهم ، فإن سبب ذلك أنهم أرادوا الإطاحة بنظامه مرات متعددة ، فلم يكن أمامه إلا عقوبتهم بما ذكر ، وهذا حق تكفله الشريعة الإسلامية والقوانين والأعراف الدولية ، ولئن كان في هذا شيء من القسوة ، فإنهم هم الجناة على أنفسهم ، وليس هو من جنى عليهم.
ثانيهما : التسليم بأنه قد ظلمهم ، وهنا علينا البحث في الأدلة التي سنحاسب يوم القيامة على ضوئها ، فماذا فيها عن مثله ؟ الجواب أن هناك حلولا وعدة خيارات ، منها ما فيه ثواب ومنها مالا ثواب فيه ، وما عدهما فهو حرام ؛ فما فيه ثواب : الصبر على الظلم واحتساب الأجر ، وما لا ثواب فيه : الخروج لوضع حد للظلم ، فمن فعله لا ثواب له عليه ، لأنه مأمور بالصبر على ذلك ، وهو قد اختار عدم الاحتمال ، فلا ثواب له على ذلك ؛ وأما ما هو حرام فهو الخروج لقلب نظام الحكم ، كما قال الصادق الغرياني : " لقد قلنا له اترك المنصب وغادر البلاد أنت وأولادك ، فرفض ذلك ، فكانت هذه النهاية المشينة " فما عسى أن يقول لرب العالمين يوم الدين ، إذ سيسأله : من أين لك أن تقول له اترك .... وغادر... وقد علمت أن الرسول محمدا أرخص فيه في حال الكفر البواح ، وأن الخارجين لم يخرجوا لذلك بل لإقامة الديمقراطية ودولة المؤسسات ؟ .
ومما تقدم يتبين أن الخروج الذي وقع في بعض البلدان محرم ، ليس لأن الأنظمة صالحة ، كما يتهكم به من قام بهذا الحراك مع كل من يلومهم ، فالكل متفق على أن الأوضاع في دولنا لا تتفق مع الشريعة ، وأن تغيير ما هو واقع أمر واجب من فساد ، فالحكومات فعلت أخطاء تجبر الناس على الاحتجاج عليها ، وإنما سبب الحرمة هو ما تسفر عنه من ضحايا ودمار واختلاف وقطيعة بين المسلمين.
هذه بعض مآخذ خصوم القذافي عليه ، وقد يبدو للبعض أن ما جاء من ردود عليها غير مسلم به ، فيتمسكون بأن ما جرى من أحداث له مبرراته ، ومع هذا فلو كان هناك اختلاف في وجهات النظر في تقييم سلوكياته المذكورة ، فينبغي أن يكون هناك توافق على أنه لم يكفر كفرا صريحا متفقا عليه ، وهذا هو المبرر الوحيد الذي جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يبيح العزل بسببه ، وقد شهدت أمتنا نظراء لولاة ظالمين ، وعلى رأسهم الحجاج ، وروي عن محمد بن سيرين رحمه الله أنه قال : ما ذكرت من قُتل مع ابن الأشعث إلا قلت : ليتهم لم يخرجوا ، وما ذكرت كلمة قالها الحجاج إلا قلت : ما وسعهم إلا ما صنعوا ، قال : يا أهل العراق يزعمون أن خبر السماء قد انقطع ، وقد كذبوا ، إن خبر السماء عند خليفة الله ، وقد أنبأه الله أنه مشردهم وقاتلهم " فهذا رأي ابن سيرين في خروج عدد من أهل العراق على الحجاج ، وهو ليس حاكما عاما للمسلمين يومها ، بل وال من ولاته ، ولكن لما أسفر الخروج عليه عن إراقة الدماء قال : " ليتهم لم يخرجوا " فكيف يقال إن الخروج المدمر في ليبيا مباح شرعا ، مع ما أسفر عنه من دمار وقطيعة !!.
وإذا استثنينا من يجوز أن نطلق عليهم ( أصحاب عقدة معمر ) فلا شك أنه لم يعد أمامهم إلا إعادة النظر في الجناية التي اجترحوها أو رضوا بها ، أما أصحاب العقدة فسيظلون الآن في ضلال مبين ، ويوم القيامة لا تنفعهم شفاعة الشافعين ، وهؤلاء سيقولون إن ما حدث ويحدث من مظالم وفتن لم يكن منه بد لتتخلص البلاد من التخلف والفساد والاستبداد ، والرد عليهم أنه من المسلم به أن الوضع كان سيئا ، ولكن الرسول لم يأذن بالإقدام على الاقتتال بين المسلمين إلا في الردة الصريحة وهي لم تصدر عنه.
وإذ ثبت هذا ، فالأمر كما قال الشاعر :
** ما هكذا يا سعد نورد الإبل **
هل سرقت الثورة الليبية ؟
واقع الحال في ليبيا أن الخارجين إنما يمثلون عددا قليلا جدا بين السكان ، والذين حملوا السلاح منهم لا يصل واحدا في المائة ، فالتقديرات الرسمية تذكر أنهم قرابة خمسين ألفا ، وعدد السكان القادرين على حمل السلاح من الرجال يجاوز المليون ونصف المليون تقريبا ، عندما نستثني كبار السن ، ثم تأكد هذا من خلال انصراف الشارع الليبي عن الاشتراك في أول انتخابات محلية وعلى مستوى الدولة الليبية .
وهذه الأقلية التي دمرت البلاد كانت مشاربها مختلفة ، فمنهم الإسلاميون من جماعة الإخوان المسلمين ، ومنهم السلفيون الجهاديون ، ومنهم من ينتمي إلى تنظيم القاعدة ، ومنهم من يتبع عددا من علماء السعودية من غير من ذكر ، وهم كذلك فرقا ، لا فريقا ، لا ينقادون لبعضهم ولا لغيرهم ، وكل هؤلاء عندما انتهت الأحداث أرادوا أن يحكموا السيطرة على البلاد ، مدعومين من المفتي الصادق الغرياني ، الذي يريد السير على هواهم فاضطر للتصريح ونقيضه مراعاة لشعورهم !! وبما أن الناتو ودول الغرب عامة هي من استخدمت بعض هؤلاء وغضت الطرف عن آخرين منهم ، فلا شك أنها لن تسمح لكل من هب ودب بحكم البلاد الليبية ، ولا بد لمن يريد حكم البلاد من الحصول على تأشيرة موافقة من أمريكا أو إحدى شريكاتها ، وبعض خصوم القذافي يحلمون بأنهم ( حرروها ) !! وهم الذين أسقطوا نظامه ، فأرادوا أن تكون لهم كلمة مسموعة في الشأن السياسي ، لكن لما كان الغرب هو من أسقطه فعلا لم يلتفت ، ولن يلتفت لهؤلاء ( الغرابيل ) ممن لا يزن إلا مئات الجرامات في مقابل من يدعمهم الغرب الذين يزنون أطنانا ، ومن هنا فإن بعضهم عندما تم إقصاؤه يردد أن ( الثورة ) قد تمت سرقتها ، ولا يدري الإنسان متى سيفيق هؤلاء من غيبوبتهم ويدركوا حقائق الأمور كما هي ؛ وعليه فإن ( الثورة ) الليبية لم تتم سرقتها ولن يحدث هذا في أغلب الظن ، بل إن حال البلاد الليبية تسير وفق ما يخطط لها كبار الساسة الغربيون ، وليس في الإمكان سرقتها بسهولة.
الخلاصة 23
إن بعض العلماء رأى جواز عزل القذافي مهما كان الثمن انطلاقا مما تقدم من مبررات السياسيين الدنيوية ، وآخرين رأوا عزله لأنه كافر ، والفريقان أخطآ في حكمهما هذا ، فالمَنفذ الوحيد الذي أذن الرسول فيه للمسلمين أن يريقوا دماءهم وهم يواجهون قوات أي حاكم : هو الكفر الصريح بالاتفاق وليس عند البعض ، أو أن تكون قوانينه تسمح بمنح رخص ممارسة بعض ما حرمه الله كما نص عليه بعض العلماء ، شرط عدم وقوع ظلم وفتنة.
وخصوم القذافي بمختلف أدوارهم في الإطاحة به كانوا يراهنون على عجزه عن البقاء في المنصب ، فالعالم لم يعد يريد بقاءه ، ومن ثم تملكهم العجب من مواقف من خالفهم وأيده ، لكن كان الواجب على هؤلاء أن ينظروا هل إسقاطه جائز أو محرم سواء بقي أم لا ، ولكنهم غيبوا هذه النظرة الصحيحة ، وركزوا على سقوطه المؤكد لا محالة عندهم ، فتجاهلوا ما سيحاسبون عليه يوم القيامة ، وحسن نيتهم لا يكفي أن يثيبهم الله على هذا الدمار والاقتتال والقطيعة !!.
إن عهده كانت فيه أخطاء كأي نظام قديم أو حديث ، هذا ما خلاف عليه ، وإنما الخلاف في طريقة معالجة هذه الأخطاء ، وما حصل ليس علاجا لها بل تعديلا في ممارستها ، ومعلوم أن النظام الملكي قبله كانت فيه أخطاء هو الآخر ، والذي سوّغ قلب ذلك النظام الملكي شرعا أمران ، أولهما : أن تشريعاته كانت تشتمل على الترخيص بممارسة بعض المحرمات ، والثاني : أن عملية الإطاحة به تمت دون إراقة دماء ولا فتنة ، فلو لم يكن يمنح رخصا لتصنيع وبيع الخمر وشربه ، وبممارسة الزنا ، أو لو أن الإطاحة به رافقها اقتتال وقطيعة اجتماعية ، لكان إسقاطه محرما شرعا ، كذلك لو أنه أبقى تلك التشريعات لكانت الإطاحة به مقبولة من حيث المبدأ ، فلا يشترط إلا السلامة من الفتنة والقطيعة ليكون الإقدام على عزله والاستمرار فيه بعد الشروع فيه كلاهما عمل مشروع في دين الله سبحانه ، إلا أن نظامه سحب البساط الذي يسوغ الإطاحة به حين منع من الترخيص لها ، فليس لأحد عزله بالقوة ، إن عزله جريمة فوق جريمة الخروج وما ترتب عليه.