نَبَّهَ شَيْخُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فِي مُقَدِّمَتِهِ عَلَى كِتَابِ «رِيَاض الصَّالِحِينَ» (صفحة : ل-ن) -لِلإِمَامِ النَّووي- عَلَى خَطَإِ إِيْرَادِهِ -رَحِمَهُ اللهُ- لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -مَرْفُوعاً- بِلَفْظِ : «إِنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ ، وَلاَ إِلَى صُورَكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ»؛ فَقَالَ شَيْخُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- :
«وَزَادَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي رِوَايَةٍ : «وَأَعْمَالِكُمْ» ، وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي «تَخْرِيجِ الحَلاَلِ وَالحَرَامِ» (410) .
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ هَامَّةٌ جِدًّا ؛ لأَنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يَفْهَمُونَ الحَدِيثَ بِدُونِهَا فَهْماً خَاطِئاً ؛ فَإِذَا أَنْتَ أَمَرْتَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ الشَّرْعُ الحَكِيمُ مِنْ مِثْلِ إِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ ، وَتَرْكِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ -وَنَحْوِ ذلِكَ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ- : أَجَابُوكَ بِأَنَّ العُمْدَةَ عَلَى مَا فِي القَلْبِ ، وَاحْتَجُّوا عَلَى زَعْمِهِمْ بِهذَا الحَدِيثِ ! دُونَ أَنْ يَعْلَمُوا بِهذِهِ الزِّيَادَةِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَنْظُرُ -أَيْضاً- إِلَى أَعْمَالِهِمْ ؛ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَبِلَهَا ؛ وإِلاَّ رَدَّهَا عَلَيْهِمْ ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذلِكَ عَدِيدٌ مِنَ النُّصُوصِ ؛ كَقَوْلِهِ ? : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ».
وَالحَقِيقَةُ أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَصَوُّرُ صَلاَحِ القُلُوبِ إِلاَّ بِصَلاَحِ الأَعْمَالِ ، وَلاَ صَلاَحِ الأَعْمَالِ إِلاَّ بِصَلاَحِ القُلُوبِ .
وَقَدْ بَيَّنَ ذلِكَ رَسُولُ اللهِ ? أَجْمَلَ بَيَانٍ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ : «... أَلاَ وَإِنْ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ» ، وَحَدِيثِهِ الآخِرِ : «لَتُسَوُّنَّ صَفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» ، أَيْ : قُلُوبِكُمْ ، وَقَوْلِهِ ? : «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ» ، وَهُوَ وَارِدٌ فِي الجَمَالِ المَادِّي المَشْرُوعِ -خَلاَفاً لِظَنِّ الكَثِيرِينَ-».
ثُمَّ تَعَقَّبَ شَيْخُنَا -رَحِمَهُ اللهُ- ابْنَ عَلاَّنَ فِي «شَرْحِه» (4/406) لَمَّا قَالَ -شَارِحاً الحَدِيثَ- : «أَيْ : إِنَّهُ -تَعَالَى- لاَ يُرَتِّبُ الثَّوَابَ عَلَى كِبَرِ الجِسْمِ وَحُسْنِ الصُّورَةِ وَكَثْرَةِ العَمَلِ» ! فَرَدَّهُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- بِقَوْلِهِ :
«وَهذَا الشَّرْحُ مِمَّا لاَ يَخْفَى بُطْلاَنُهُ ؛ لأَنَّهُ -مَعَ مُنَافَاتِهِ لِلْحَدِيثِ فِي نَصِّهِ الصَّحِيحِ- مُعَارِضٌ لِلنُّصُوصِ الكَثِيرَةِ مِنَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تَفَاضُلَ العِبَادِ فِي الدَّرَجَاتِ فِي الجَنَّةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ للأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ -كَثْرَةً وَقِلَّةً- ؛ مِنْ ذلِكَ قَوْلُهُ -تَعَالَى- : {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} ، وَقَوْلُهُ فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ : «... يَا عِبَادِي ! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ ، أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ الله ...».
وَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ لاَ يَنْظُرَ اللهُ إِلَى العَمَلِ -كَالأَجْسَادِ وَالصُّوَرِ- ؛ وَهُوَ الأَسَاسُ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ بَعْدَ الإِيمَانِ ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى- : {ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}؟!
فَتَأَمَّلْ كُمْ يُبْعِدُ التَّقْلِيدُ أَهْلَهُ عَنِ الصَّوَابِ ، وَيُلْقِي بِهِمْ فِي وَادٍ مِنَ الخَطإِ سَحِيقٍ ! وَمَا ذلِكَ إِلاَّ لإِعْرَاضِهِمْ عَنْ دِرَاسَةِ السُّنَّةِ فِي أُمَّهَاتِ كُتُبِهَا المُعْتَمَدَةِ ، واللهُ المُسْتَعَانُ».
أَقُولُ : فهذَا أَصْلُ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ -الَّتِي بِهَا فَارَقُوا المُرْجِئَةَ -فِي مَسْأَلَةِ الإِيْمَانِ- الَّتِي مِنْهَا ضَلُّوا ، وَعَنْهَا انْحَرَفُوا ، وَهِيَ : حَقِيقَةُ التَّلاَزُمِ بَيْنَ الظَّاهِرِ -قَوْلاً وَعَمَلاً- ، وَالبَاطِنِ- تَصْدِيقاً وَإِذْعَاناً- ، وَنَابَذُوا أَقْوالَهُمْ -حَقِيقَةً وَلَفْظاً- .
ولَكِنَّ جَهْلَ (البَعْضِ) بِحَقِيقَةِ قَاعِدَةِ (التَّلاَزُمِ) بَيْنَ شُعَبِ الإِيْمَانِ -بِأَنْواعِهَا -قُوَّةً وَضَعْفاً ، وُجُوداً وَانْتِفَاءاً- وَعَدَمَ اسْتِيعَابِهَا- أَوْقَعَهُمْ فِي الخَلْطِ وَالخَبْطِ فِي هذِهِ المَسْأَلَةِ الدَّقِيقَةِ ، وَعَدَمِ الضَّبْطِ لِهَا ، أَوْ مَعْرِفَةِ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا !!
وَلِشَيْخِ الإِسْلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- كَلاَمٌ عَظِيمٌ فِي تَأْصِيلِ هذِهِ القَاعِدَةِ فِي «مَجْمُوعِ الفَتَاوَى» (7/642-644) : ذَكَرَهُ -رَحِمَهُ اللهُ- بَعْدَ بَيَانِهِ أَنَّهُ (لاَ شَيءَ أَفْضَلُ مِنْ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ) ، وَأَنَّ (أَحْسَنَ الحَسَنَاتِ التَّوحيدُ) ؛ فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- مَا نَصُّهُ :
«فَأَصْلُ الإِيمَانِ فِي القَلْبِ - وَهُوَ قَوْلُ القَلْبِ وَعَمَلُهُ ، وَهُوَ إِقْرارٌ بِالتَّصْدِيقِ وَالحُبِّ وَالانْقِيَادِ -؛ وَمَا كَانَ فِي القَلْبِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ عَلَى الجَوَارِحِ ، وَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ أَوْ ضَعْفِهِ) .
وَلِهذَا كَانَتِ الأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ مِنْ مُوجَبِ إِيمَانِ القَلْبِ وَمُقْتَضَاهُ ، وَهِيَ تَصْدِيقٌ لِمَا فِي القَلْبِ ، وَدَلِيلٌ علَيْهِ وَشَاهِدٌ لَهُ ، وَهِيَ شُعْبَةٌ مِنْ مَجْمُوعِ الإِيمَانِ المُطْلَقِ وَبَعْضٌ لَهُ ؛ لَكِنَّ مَا فِي القَلْبِ هُوَ الأَصْلُ لِمَا عَلَى الجَوَارِحِ» .
أَقُولُ : هذَا هُوَ الكَلاَمُ الفصْل ، الَّذِي يُرَدُّ لَهُ كُلُّ فَرْعٍ وَفَصْل ؛ فَالوَاجِبُ تَأَمُّلُهُ ، وَتَفَهُّمُهُ ، وَضَبْطُهُ ...
مِنْ أَجْلِ هذَا وَصَفَ الإِمَامُ ابْنُ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ فِي «مَدَارِجِ السَّالِكِينَ» (1/101) (عَمَلَ القَلْبِ ؛ كَالمَحَبَّةِ لَهُ ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ، وَالإِنَابَةِ إِلَيْهِ ... و ... و ... وَغَيْر ذلِكَ مِنْ أَعْمَالِ القُلُوبِ) ، بِأَنَّهَا : «أَفْرَضُ مِنْ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ ، وَمُسْتَحَبُّهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ مُسْتَحَبِّهَا...».
وَهذَا الكَلاَمُ -وَذَاكَ- مَبْنِيَّانِ عَلَى أَصْلٍ قَوِيمٍ رَاسِخٍ ، وَهُوَ : «أَنَّ شُعَبَ الإِيمَانِ قَدْ تَتَلاَزَمُ عِنْدَ القُوَّةِ ، وَلاَ تَتَلاَزَمُ عِنْدَ الضَّعْفِ ...» ؛ كَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ فِي «المَجْمُوع» (7/ 522).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- (7/ 234) -فِي مَوْضِعٍ آخَرَ- مُعَلِّلاً- :
«...فَإِنَّ قُوَّةَ المُسَبَّبِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ السَّبَبِ ، وَهذِهِ الأُمُورُ نَشَأَتْ عَنِ العِلْمِ ؛ فَالعِلْمُ بِالمَحْبُوبِ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَهُ ، وَالعِلْمُ بِالمَخُوفِ يَسْتَلْزِمُ الهَرَبَ مِنْهُ ؛ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الَّلاَزِمُ : دَلَّ عَلَى ضَعْفِ المَلْزُومِ ...» .
وَقَالَ -رَحِمِهُ اللهُ- (7/198) : «وَذلِكَ لأَنَّ أَصْلَ الإِيمَانِ هُوَ مَا فِي القَلْبِ ، والأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لاَزِمَةٌ لِذلِكَ ؛ لاَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ (إِيمَانِ القَلْبِ الوَاجبِ) مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ ؛ بَلْ مَتَى نَقَصَتِ الأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَانَ لِنَقْصِ الإِيمَانِ الَّذِي فِي القَلْبِ ؛ فَصَارَ الإِيمَانُ مُتَنَاوِلاً لِلْمَلْزُومِ وَاللاَّزِمِ -وإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَا فِي القَلْبِ- ؛ وَحَيْثُ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الأَعْمَالُ ؛ فَإِنَّهُ أُرِيدَ أَنَّهُ لاَ يُكْتَفَى بِإِيمَانِ القَلْبِ ؛ بَلْ لاَ بُدَّ مَعَهُ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ...» .
إِذاً ؛ «أَعْمَالُ القُلُوبِ هِيَ الأَصْلُ ، وَإِيْمَانُ القَلْبِ هُوَ الأَصْلُ»...
أَقُولُ : وَمِنْ هذِهِ القَاعِدَةِ يُمْكِنُ تَصَوُّرُ وَفَهْمُ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الوَارِدَةِ فِي نَجَاةِ مَنْ قَالَ : (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) ، وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ إِلاَّ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيْمَانٍ ، وَتَصَوُّرُ حَقِيقَةِ التَّلاَزُمِ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ فِي هذَا الإِطَارِ ؛ وَذلِكَ بِضَمِيمَةِ كَلاَمِ شَيْخِ الإِسْلاَمِ فِي «مَجْمُوعِ الفَتَاوَى» (7/ 616) :
«إِذَا كَانَ العَبْدُ يَفْعَلُ بَعْضَ المَأْمُورَاتِ وَيَتْرُكُ بَعْضَهَا : كَانَ مَعَهُ مِنَ الإِيْمَانِ بِحَسْبِ مَا فَعَلَهُ ، وَالإِيْمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ».
وَهذَا أَصْلٌ مُهِمٌّ -غَايَةً- ؛ مَنْ فَهِمَهُ وَاسْتَوْعَبَ حَقِيقَتَهُ : حُلَّتْ لَهُ إِشْكَالِيَّةُ هذِهِ المَسْأَلَةِ –بَدْءاً وَانْتِهَاءً-