جلوس مالك للدرس
جلس الإمام مالك للدرس
ورواية الحديث بعد أن تزود من زاد المدينة العلمي، واستوثق
لنفسه، واطمأن إلى أنه يجب أن يعلم بعد أن تعلم، وأن ينقل
للناس أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواها
من الثقات، وأن يفتي ويخرج، ويرشد المستفتين. ويظهر أنه
قبل أن يجلس للدرس والإفتاء استشار أهل الصلاح والفضل.
وقد قال في ذلك: "ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد
للحديث والفتيا جلس، حتى يشاور أهل الصلاح والفضل والجهة
من المسجد، فإن رأوه لذلك أهلا جلس، وما جلست حتى شهد
لي سبعون شيخا من أهل العلم أني موضع لذلك".
بعد هذه الشهادة التي لا تعدلها شهادة، جلس الإمام مالك
للدرس والإفتاء، ولم تعرف سنه على وجه اليقين، ولكن مجموع
أخبار حياته يدل على أنه قد بلغ من السن حد النضج، وأنه
ما جلس حتى بلغ أشده. قال سفيان بن عيينة: "جلس للناس
وهو ابن سبع عشرة سنة، وعرفت له الإمامة وبالناس حياة
إذ ذاك".
والرواة يقولون: أنه مع شهادة السبعين عالما له، ما جلس
إلا بعد أن اختلف مع ربيعة. قال سفيان بن عينية: "دارت
مسألة في مجلس ربيعة، فتكلم فيها ربيعة فقال مالك: ما
تقول فيها يا أبا عثمان؟ قال ربيعة: أقول فلا تقول، وأقول
إذ لا تقول، وأقول فلا تفقه ما أقول، ومالك ساكت، فلم
يجب بشيء وانصرف، فلما راح إلى الظهر جلس وحده وجلس إليه
القوم، فلما صلى المغرب اجتمع إلى مالك خمسون أو أكثر،
فلما كان من الغد اجتمع إليه خلق كثير".
وقد ذكر هذا الخلاف في رسالة الليث بن سعد إليه، فقد جاء
فيها: "وكان خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى مما قد عرفت
وحضرت وسمعت قولك فيه وقول ذوي الرأي من أهل المدينة:
يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عبد الله ابن عمر، وكثير
بن فرقد، وغير كثير ممن هو أسن منه، حتى اضطرك إلى ما
كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه. وذاكرتك أنت وعبد العزيز
بن عبد الله بعض ما نعيت به على ربيعة من ذلك، فكتبها
من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكره. ومع ذلك
ـ بحمد الله ـ عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، وفضل مستبين
وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا
خاصة، رحمه الله وغفر له، وجزاه بأحسن من عمله".
وإذا كان ربيعة قد توفي عام 136هـ ، فقد توفي ومالك قد
بلغ الثالثة والأربعين، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يتصور
مخالفة مالك له، وهو في سن ناضجة كاملة، وهو المعقول.