صفات الإمام
مالك
وأن هذا التوجيه وذلك
العلم، ينبعث أول ما ينبعث من صفات الشخص، ثم من شيوخه
بالتوجيه، ومن عصره بالجو الفكري الذي يتغذى منه، ثم بجهوده:
فالمقوم لشخصيته(صفاته الذاتية) هي الأصل وغيرها فروع
تغذى منها كما تتغذى الجذع من الأغصان، وإن كانت لا وجود
لها بغير قيامه وامتداد جذوره في باطن الأرض حيث يتكون
من الخصب والماء.
لقد آتاه الله حافظة واعية، وحرصا شديدا على الحفظ وصيانة
ما يحفظ من النسيان. وقد سمع من ابن شهاب الزهري واحدا
وثلاثين حديثا .. لم يكتبها، ثم أعادها على شيخه، فلم
ينس منها إلا حديثا واحدا وإنه كان ينمي الحفظ وشدة الوعي
في عصر مالك الاعتماد على الذاكرة في ذلك الزمان.
فما كان العلم يؤخذ من الكتب، بل كان يتلقى من أفواه الرجال
وكانت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير مدونة
في كتاب مسطور، بل كانت في القلوب ومذكرات خاصة للشيوخ،
لا يتداولها التلاميذ، وإنما يتلقون ما احتوته من أفواه
كتابها.
ولا شك أن الحافظة القوية أساس للنبوغ في أي علم، لأنها
تمد العالم بغذاء عقله يكون أساسا لفكره. وكان مالك بهذه
الحافظة القوية المحدث الأول في عصره، حتى لقد فال الشافعي:
"إذا جاء الحديث فمالك النجم الثاقب، وقال فيه شيخه
ابن شهاب إنه "وعاء العلم".
ومع هذه الغزارة في الأحاديث التي حفظها، كان لا يحدث
إلا بما يرى في التحديث به مصلحة. قيل له: عند ابن عيينة
أحاديث ليست عندك، فقال: "إذن أحدث بكل ما سمعت،
إني إذن أحمق، إني أريد أن أضلهم إذن، ولقد خرجت مني أحاديث
لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها".
وكان مالك مع هذه القوة العقلية الواعية، ذا جلد وصبر
ومثابرة، فكان يغالب كل المعوقات التي تقف في سبيل طلبه
للعلم: عالج شظف العيش وهو يشدو في طلبه، وعالج حدة الشيوخ،
وصبر على حر الهجيرة كما صبر على قارس البرد، وهو يسعى
إلى الشيوخ متنقلا إليهم في القر والحر. وكان يحث تلاميذه
على الصبر على طلب العلم، ويقول: "من طلب هذا الأمر
صبر عليه" وقال لهم في أحد مجالسه: "لا يبلغ
أحد ما يريد من هذا العلم، حتى يضر به الفقر ويؤثره على
كل حال".
أعطته هذه الصفة قوة إرادة وعزيمة جعلته يواجه مشكلات
الحياة بإرادة صارمة، وجعلته يستولي على أهوائه وشهواته،
فما سيطر عليه هو جامح، ولا ضعف أمام ذي سلطان. وذلك فوق
ما تمكن بها من طلب العلم من كل نواحيه.
والصفة التي أشرق بها قلبه بنور الحكمة هي الإخلاص. أخلص
في طلب العلم، فطلبه لذات الله، ونقى نفسه من كل شوائب
الغرض والهوى. وأخلص في طلب الحقيقة، واتجه إليها من غير
عوج ولا أمت. والإخلاص يضيء الفكر فيسير على خط مستقيم،
وهو أقرب الخطوط للوصول إلى الحق، كما هو أقرب الخطوط
بين نقطتين. وإنه لا شيء يعكر صفو الفكر أكثر من الهوى،
فإنه يكون كالغيم على الحقائق فيمنع العقل من رؤيتها.
ولقد دفعه الإخلاص لأن يقول ويقرر أن نور العلم لا يؤنس
إلا من امتلأ قلبه بالتقوى، فهو يقول: "العلم نور
لا يأنس إلا بقلب تقي خاشع".
ولإخلاصه في طلب العلم كان يبتعد عن شواذ الفتيا، ولا
يفتي إلا بما هو واضح نير، وكان يقول: "خير الأمور
ما كان ضاحيا نيرا، وإن كنت في أمرين أنت منهما في شك،
فخذ بالذي هو أوثق".
وكان يتأنى في الفتوى ولا يسارع إلى الإجابة. وقد قال
ابن عبد الحكم: "كان مالك إذا سئل عن المسألة، قال
للسائل: انصرف حتى أنظر، فينصرف، ويتردد فيها. فقلنا له
في ذلك فبكى، وقال: إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم
وأي يوم". وما كان يعتبر في الفتاوى خفيفا وصعبا،
بل يعتبرها كلها أمرا صعبا ما دام يترتب تحليل أو تحريم
على قوله. سأله سائل وقال له: مسألة خفيفة فغضب، وقال:
"مسألة خفيفة سهلة!! ليس في العلم شيء خفيف. أما
سمعت قول الله تعالى
سنلقي عليك قولا ثقيلا)، فالعلم
كله ثقيل، وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة".
وكان لإخلاصه لا يقول هذا حرام أو هذا حلال، إلا إذا كان
ثمة نص صريح. أما ما يكون استنباطا بوجه من وجوه الرأي،
فإنه لا يقول حلال وحرام، بل يقول: أكره وأستحسن. وكثيرا
ما كان يعقب على ذلك بقوله مقتبسا من القرآن: (إن نظن
إلا ظنا . وما نحن بمستيقنين).
وقد دفعه إخلاصه لأن يبتعد عن الجدل في دين الله، ويدعو
إلى ألا يجادل أحد في دين الله .. لأن المجادلة نوع من
المنازلة، ودين الله تعالى أعلى من أن يكون موضع منازلة
بين المسلمين، ولأن الجدل يدفع في كثير من الأحيان إلى
التعصب للفكرة من غير أن يشعر المجادل، والتعصب يجعل نظر
المتعصب جانبيا لا يرى إلا من ناحية واحدة. ثم كان يرى
أن الجدل لا يليق بكرامة العلماء لأن السامعين ينظرون
إليهم، وهم يتغالبون في القول، كما ينظرون إلى الديكة
وهي تتنافر. ولقد جابه بهذه الحقيقة الرشيد، وأما يوسف
صاحب أبي حنيفة، عندما قال الرشيد له: "ناظر أبا
يوسف". فقال له: " إن العلم ليس كالتحريش بين
البهائم والديكة".
ولكراهيته للجدل أكثر من النهي عنه، فكان يقول: "الجدال
يقسي القلب، ويورث الضغن". ويقول: "المراء والجدال
في الدين يذهب بنور العلم من قلب العبد". وقيل له:
رجل له علم بالسنة أيجادل عنها؟ فقال: "لا، ولكن
ليخبر بالسنة، فإن قبل منه، وإلا سكت". وكان يرى
أن الجدل يبعد المتجادلين عن حقيقة الدين، وقال في ذلك:
"كلما جاء رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل".
ومع نهيه عن الجدل كان يناظر بعض العلماء المخلصين ليبين
لهم الدليل، ويناقشهم فيه ويناقشونه.
وقد دفعه إخلاصه للدين لئلا يكثر من التحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولأن ينتقي ما يحدث به الناس، وقد
أشرنا إلى ذلك، كما كان يقلل من الإفتاء، ولا يفتي إلا
فيما يقع بين الناس.