هيبة مالك
اتفقت الروايات على
أن مالكا ـ رضي الله عنه ـ كان مهيبا، حتى أنه ليدخل الرجل
إلى مجلسه فيقرئ السلام للحاضرين، فما يرد أحد إلا هممة
وبصوت خفيض، ويشيرون إليه ألا يتكلم. فيستنكر عليهم القادم
ذلك، ولكنه ما أن يملأ العين من مالك وسمته، ويقع تحت
تأثير نظراته النافذة حتى يأخذ مأخذهم، ويجلس معهم، كأن
على رأسه الطير مثلهم.
وكان يهابه والي المدينة حتى أنه لا يحس بالصغر إلا في
حضرته،ويهابه أولاد الخلفاء، حتى إنه ليروى أنه كان في
مجلس أبي جعفر المنصور، وإذا صبي يخرج ثم يعود، فقال المنصور:
أتدري من هذا، قال: لا، قال: هذا ابني، إنما يفزع من شيبتك
.. بل يهابه الخلفاء أنفسهم، إذ يروى أن المهدي دعاه ـ
وقد ازدحم الناس بمجلسه، ولم يبقى موضع لجالس ـ حتى إذا
حضر مالك تنحى الناس له، حتى وصل إلى الخليفة، فتنحى له
عن بعض مجلسه، ورفع إحدى رجليه ليفسح لمالك المجلس ..
وهكذا كان شيخ فقهاء المدينة مهيب، حتى كان له نفوذ أكبر
من نفوذ الولاة، وله مجلس أقوى تأثيرا من مجلس السلطان
من غير أن يكون ذا سلطان، وقد قال فيه بعض شعراء عصره:
يأبى الجواب فما يراجع هيبـة والسائلون نـواكس الأذقـان
أدب الوقار وعز سلطان التقـى فهـو المطاع وليس ذا سلطان
وما سر هذه الهيبة؟ إنه مهما يكن للشخص من صفات عقلية
وجسمية لا نستطيع أن نسند المهابة إليها وحدها. وإن من
الناس من تتوافر فيهم هذه الصفات، ولا يكون لهم هذه المهابة،
ولذا نقول في سبب هذه المهابة إنه قوة الروح، فمن الناس
رجال قد آتاهم الله تأثيرا روحيا في غيرهم يجعل لهم سلطانا
على النفوس، فيكون لكلامهم مواضع في النفس، وكأنما يخطون
في النفوس خطوطا حين يتكلمون. وقد أعطى الله تعالى مالكا
هذه القوة الروحية.
وكانت حياته كلها تزيدها وتنميها، وتظهرها وتجليها ...
فحياة عقلية متسعة الأفق والمدى، وعلم غزير، وضبط للنفس،
ونفاذ بصيرة، وسمت حسن، وقلة في القول ـ فإنه لا يذهب
المهابة أكثر من لغط الكلام وكثرته التي تدفع إلى السقط،
إذ كل سقطة في القول تذهب بشطر من المهابة ـ ومع هذا كله
قد بعد مالك عن الملق والرياء، والتزم التقوى، وصدق القول.