مما جرتْ عليه عوائدُ أهل العلم النقلُ عن الكتبِ ، و الأخذِ عنها ، و لا غرْوَ
في ذلك فهنَّ لِقاحُ الفُهوم ، و نبراسُ العقول .
و أيضاً جَرْيُ العادةِ بالنقلِ عن الأشياخ ، و هي ما يُسمى بـ ( الملفوظات )
أو ( المشافهات ) و هي غالباً ما تكون من نفيسِ ما يكون من النقلِ .
و حيثُ كانت بتلك المكانة ، و حاظِيَةٌ بهاتيك المتانة ، إلا أنه انتابها من
الخيانة ما انتابها ، و اعتراها من الإخلال ما اعتراها .
فقد بُلِيَتْ العلومُ بسُرَّاقها ، و انفلتت سطوة خُرَّاقها ، فلا ترى علماً
إلا مخروقاً ، و لا فناً إلا مفتوقاً ، و الآكلةُ تعبَثُ ، و السباعُ تنهش .
و لستُ إلا مريداً التَّعَرُّضَ لحالِ السُرَّاق ، الذين كشفَ عورتهم ، و أبان
سوأتهم نفرٌ مباركٌ من فضلاء أهل العلوم ، منهم الشيخ : حسان عبد المنان في
كتابه الماتع المفيد " السرقات العلمية " ، و كذلك ما كتبه الشيخ : صالح
الحُصَيِّن في " هل للتأليف حقٌّ شرعي ؟ " ، و " حقوق المِلكية الفكرية "
لـ : أ.د . بركات محمد مراد ، و غيرها .
فإننا ننظرُ إلى سوقهم فإذا هي رائجةٌ ، و إلى بضاعتهم فهي رابحة ، و لكن أين
لها الربح المعنوي ؟ ، و أين لها النجاءُ من التَبِعَة يوم القيامة ؟
إن كثرتَهم من أقوى دلائل الخيانة في الطلب ، و من أدلِّ ما نظفرُ به عليهم في
بيان سوءِ المقصد ، و ما كان هذا من عوائد السالفين ، و من مناهج العلماء
العاملين ، و العارفُ بسيَرِهم دارٍ بذلك .
و قد تُنُوْقِلَتْ كلمةٌ غَدتْ مثلاً : من بَرَكَةِ العلم و شُكرِهِ عَزوهُ إلى
قائله . انظر : " المُزهر " ( 2/231) .
النقلُ نوعان :
الأول : نقلٌ بالنَّصِّ ، و هذا غالبُ ما عليه الأكثرون ، و لِيُلاحَظ فيه :
الحرصُ على أن يكون النقلُ معتمداً من قِبَلِ المنقولِ منه ، و الاعتمادُ قسمان
:
القسمُ الأول : اعتمادُ قولٍ هو العمدةُ فيما قرره المؤلفُ ، فبعضٌ _ كثيرٌ _
من العلماء يتخذون أقوالاً تُنقلُ عنهم و تنتشرُ في آفاق الأرض ، ثم يتغيَّرُ
رأي العالمِ إلى غيره ، و محلُّ قولهِ الأخير محلاّن :
الأول : كتابٌ يؤلفه هو مؤخراً فيُعتمدُ عنه .
الثاني : تقرير طلابه ذلك عنه في كتبهم .
القسم الثاني : النظرُ في تقارير طلابه الأثبات عنه ، فلصوق الطالب بشيخه ، و
لزومه درسه ، مما يتأكدُ فيه كينونةُ ما يقرره الطالب مُعتمد شيخه .
مع مراعاة الطالبِ من حيثُ : تمام الضبط ، و كمال الديانة ، و إتقان النقلِ ، و
موافقةُ الأقران .
النوعُ الثاني : نقلٌ بالمعنى ، و هذا لا عيبَ فيه إذا كان مُقيَّداً بقيدين
اثنين :
أولهما : عدم وجود النقلِ نصاً ، أو تعسرَ ، أو كان ملفوظاً علمياً لا مكتوباً
.
ثانيهما : الفهم الصحيح للكلام المنقول ، فإذا صحَّ الفهمُ للمنقولِ معنى فحسنٌ
جميل .
إلا أننا بُليَ زماننا بأقوامٍ أخلوا بكلا الأمرين ، فلا راعوا نقلاً نصياً ،
و لا صانوا المعاني من سَوْءَةِ فهومهم فخانوا العلم و أهله بفهوم منكوسة ،
طوى عليها الزمان بساط الردى و الغَيِ .
و ( الأمانة العلمية ) لفقدانها صورٌ عِدَّةٌ :
الأولى : الزيادة على النقل دون الإشارة لها .
فكثيراً ما يُدْرِجُ بعضُ النُّقَّال من بعض المصادر كلاماً ليس من ضمن المنقول
، و يعزُبُ عنهم _ و هذا نادرٌ ، و إلا فالأكثرُ الإهمالُ المُتعمَّد _ تبيانُ
ذاك المُدرج ، فيفهم من يقرأ أن ذلك من ضمن الكلام الأصل المنقول .
و هذا لا يستريبُ عاقلٌ في مدى لصوقهِ بالخيانة العلمية ، إذ بعضهم يدفعه إلى
ذلك أمورٌ سيئة ، منها :
أولاً : اتهامٌ للمنقولِ عنه بأنه ذو منهج منحلٍ ، و معتقدٍ فاسد ، و غير ذلك
من التهم المُلْصَقة بالمنقول عنه .
و صاحب هذا العمل قد جمع إلى الخيانة الاتهام ، و بئس العملان .
ثانياً : التغرير بالمتلقي للمنقول _ المَزِيْدِ عليه _ في كونه كلاماً و نقلاً
عن فلان ، و هذه كثيراً ما يقعُ فيها كثيرٌ من المشتغلين بالتأليف ، و الذين
ينهجون منهجاً مُطَّرَحاً بين قومهم .
و هؤلاء جمعوا : خيانةً ، و كذباً ، و تغريراً ، و الله المستعان .
الثانية : النَّقْصُ من النصِّ إخلالاً به .
مُتَعارَفٌ لدى الفضلاء أن نقلَ الكلام بتمامه و كمالِه محمَدَةٌ و منقبة ، و
الإنْقاصُ منه سوءٌ و مذمة ، و كونهما في العلوم أشدُّ و أعظمُ .
عَمَدَ بعضُ منْ قلَّتْ أمانته ، و ضعُفَتْ ديانته إلى بَتْرِ النُّقول ، و
فَتْقِ الكلام ، إخلالاً به ، و إفساداً لمعناه .
و جرَّهم إلى هذا الصنيع المَشِيْن عند أولي النُّهى و العقل أسباب على رأسها
اثنان :
الأول : الحسدُ ، فكم رأينا أقواماً أخلوا بالأمانة العلمية في النقول بباعثِ
الحسد ، و لا يتفقُ ذا مع تزكيةِ العلم لقلبِ صاحبه ، و لكن في زمن تطويع العلم
للأهواء حدِّثْ و لا حرج بمفاسد ذويه .
الثاني : الخيانة و المخادعة للمسلمين ، يُبْتَرُ كلامٌ ليُسْتَشْهَدَ به على
منحىً فاسد ، و نِحلةٍ عوجاء ، و في تمامِ الكلامِ نَقْضٌ للمُسْتَدَلِّ به
عليه .
و مُعاشِرُ الحال بصير بالمُراد .
الثالثة : تَنْكيسُ الفهمِ ، و تغييرُ المُراد .
قد يكون النقلُ تامَّاً غيرَ ذي نقصٍ و لكن يعتريه إخلالٌ بأمانة الإيضاح ،
فيأتي الناقلُ شارحاً النقلَ ، كاشفاً عن معناه غلطاً و خطأً .
و هذا قد يكون عمداً و قد يكون خطأً .
الرابعة : عدمُ المُراعاة للاصطلاحات التي دَرَجَ عليها صاحبُ الكلام المنقولِ
عنه ، و معرفةُ اصطلاحات المؤلف من خلال طريقين :
الأولى : إيضاحُه ذلك ، و تبيينه ، كما هو المعتاد من أئمة العلم ، و يُراعى
الاصطلاح المُشْكِل فهو محلُّ الزلل .
الثانية : ما عليه مذهبُ العالم سواءً : عقيدةً ، أو فقهاً ، أو حديثاً ، أو
نحواً ... .
فمراعاة الاصطلاحات كافٍ في ضمان أمانةِ النقلِ ، و البُعد عن الخيانةِ فيه ، و
منْ يدري ؟! .
فائدةٌ :
قالَ العلامة عبد الفتاح أبو غدةَ _ رحمه الله _ " تصحيحُ الكتب " ( ص 100 ) :
5_ الإحالةُ غير السديدة : جرتْ عادةُ بعضِ الكاتبين أو المعلقين على الكتب
اليوم ، أن يوردوا نصاً من كتاب ، لإيضاح المقام ، أو لتصويب خطأ في الكلام ، و
يختمون الكلام الذي نقلوه بقولهم : انظر كتاب كذا ، و يُسمون الكتاب الذي
نقلوا النص منه ، و يذكرون الجزء و الصفحة . و هذا النوع من التوثيق لا غبار
عليه و لا نقد فيه من حيث هو توثيق .
و إنما يُنتقدُ منه الجملة التي يختمون بها النص ، و هي قولهم : ( انظر كتاب
كذا ) . فيستعملون ( انظر كذا ) لمجرد الإحالة إلى الكتاب المنقولِ منه ، و هذا
التعبير خطأ في هذا الموضع ، لأن كلمة ( انظر ) تقتضي أن يكون في الموضع المحال
إليه للنظر فيه شيء مفيدٌ زائد على النص الذي نقلوه أو المذكور ، ليستزيد منه
الباحثُ فائدة لم تذكر في النص المنقول أمامه .
أما إذا كان المُراد من ( انظر ) مجرَّدَ الإحالة إلى المصدر المنقول منه ، فلا
ينبغي استعمالُ ( انظر ) ، بل ينبغي أن يقال عند ختام النص المنقول : ( من كتاب
كذا ) ، أو نحوُ هذا ، دون أمرٍ بالنظر . أ.هـ .